الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية

المسيحية والمحمدية والقومية السورية – معروف بأسم الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية

الضلال البعيد

الزوبعة، بوينُس آيرس، العدد (18)، 15/4/1941


قلنا في المقال المتقدم إننا لا نصدق أن مسلماً واحداً مدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام الخوري الذي ظاهره تأييد الإسلام، وباطنه هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة، ووعدنا القرّاء بتبيان ذلك في ما يجي من هذا البحث (الصفحة 79 أعلاه).
قلنا أيضاً إن رشيد سليم الخوري ليس من أهل العلم ولا من أهل الفلسفة والتفكير، ولا من أهل الأدب الصحيح إذا اتخذنا مقياساً للأدب غير الألفاظ والأوزان. وإن تناوله دينين جليلين كالمسيحية والإسلام ليس سوى وغول على العلم والفلسفة، في حين إن قصده الحقيقي هو مدح الإسلام وهجو المسيحية.
يتظاهر رشيد الخوري في بدء حارضته التي أسماها، جهلاً منه، محاضرة بأنه قد آمن بالإسلام، ثم يأخذ في الخلط بين كلام رجل متدين ورجل يبحث في طبائع الأديان من دون تحيّز أو انحراف، اجتهاداً منه في إلباس مدحه وهجوه لباس البحث.
فإذا كان الخوري قد أسلم حقاً، اعتقاداً منه بصحة الدين الإسلامي وكلامه المنزل، فإن «محاضرته» لا تدل سوى على رجل أسلم عن جهل بحقيقة الإسلام ونصوصه المنزلة، أو رجل يتظاهر بالإسلام نفاقاً في الدين ليشتري بآياته ثمناً قليلاً1.
أول ما نطق به الخوري المتظاهر بالإسلام في مدح هذا الدين كان كفراً به وبآياته، قال في بدء حارضته: «لما فضلت الإسلام على المسيحية في خطابي العام الماضي، إلخ». فأخذ نقطة الابتداء تفضيل الدين الإسلامي على الدين المسيحي وجعل هذه النقطة مدار كلامه فنطق بكلمة الكفر من حين فتح فاه أو جرّ قلمه على القرطاس، فحق عليه قول الآيات: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً}1 ومن سورة البقرة2: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} ومن سورة النساء3: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أُنزل من قبلك}.
فمحاولة مدح الإسلام بالمفاضلة بينه وبين المسيحية وبالتفريق بين محمد والمسيح هي محاولة كفر بكلام الله المنزل بالوحي على محمد رسوله، والذين يشايعون رشيد الخوري في قوله ويؤيدونه من المسلمين ليسوا بالحقيقة سوى زنادقة في أثواب مؤمنين يتظاهرون أمام المؤمنين البسطاء الودعاء القلوب أنهم يغارون على الدين، وما غيرتهم إلا على زينة الدنيا وأعراضها.
لو لم يكن رشيد الخوري واغلاً على الفلسفة والدين والعلم لما كان تجاسر على اقتحام هذا الموضوع الخطر والخبط في مسالكه، ولكنه يظن أنه إذا التقط أشتاتاً من الأقوال الواردة لغيره وحشاها بهذر من عنده، ووقف في جمهور من عامة الناس وأخذ يتشدق بهذه الأقوال فقد صار «عالماً جليلاً» كما صار بمثل هذا الخلط «شاعراً مفلِقاً». وظن فوق ذلك أنه إذا سنَدَه سياسي من سياسيــي الدين والأدب كشكيب أرسلان فقد ربح الخلود «كمدافع عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض» الذين يمنّي شكيب أرسلان نفسه بأن يكون واحداً منهم.
وفيما الخوري يخلط ويخبط وينافق في الإيمان إذا به يحاول الظهور بمظهر العالم الذي يقلب الأديان على وجوهها ويدرس طبائعها، والفيلسوف الذي يعطي القيم الفكرية مواضعها وهو يفعل ذلك من غير أن يحتاج إلى بحث واستقراء بل بالاستبداد بالمنطق، وبتسخير القيم والمواضيع لأغراض هجوه ومديحه.
ولما لم يكن من أهل العلم والفلسفة ولا من أهل الأدب الصحيح، كما بيّنا آنفاً، فقد وقف في تفكيره ونظره في المسيحية والإسلام عند حدود التفكير العامي المنحط الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة.
وليس أدل على خلطه وخبطه في ما لا يعلم من قوله:
«لو كنت في هذا البحث الديني اسما والاجتماعي فعلاً أعرض لمسائل الآخرة والجنة والنار لحقّ لكل أديب أن يلحاني، ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة وأشرت إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم».
فقوله: «ناحيته الدينية البحتة» مجرداً هذه الناحية من مسائل الآخرة والجنة والنار ليس سوى جهل بما هو الدين وما هو العلم وما هي الفلسفة، إذ لو جردنا الدين من مسائل الآخرة والعقاب والثواب لما بقي له شي من «ناحيته الدينية البحتة»… ولكن من أين لرجل واغل على هذه المواضيع السامية أن يعلم ما هو من طبيعة الدين، وما هو من طبيعة العلم، وما هو من طبيعة الفلسفة؟
لا يعرف رشيد الخوري غير المثل الدنيا ولا قدرة له على تناول غير الفكر العامية، السطحية. والعامة تخبط في الشؤون الفلسفية الأساسية خبطاً، ولذلك نشأت عند عامة المسيحيين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في الدينين المسيحي والإسلامي، أقل ما يقال فيها إنها جزئية أو سطحية. هكذا أخذت تؤول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل لإساءتهم فهم أقوال المسيح التي منها القول: «من ضربك على خدك فحوّل ل الآخر»1. و«إنه لأسهل أن يدخل جملٌ في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت السموات»2.
وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤول تعاليم الإسلام من غير درس لها وتدين محمداً والمسلمين ببعض آيات التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها، كالآيات المتعلقة بأزواج النبي والنكاح وصور الجنة المادية، ناسية قول المسيح: «لا تدينوا لكي لا تدانوا»3.
وكذلك نشأت عند عامة المسلمين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في الدينين الإسلامي والمسيحي، أقل ما يقال فيها إنا جزئية وسطحية. هكذا أخذت تؤول آيات القرآن تأويلاً يوافق هواها فأخذت ببعض الآيات وأهملت البعض الآخر.
وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤول تعاليم المسيحية من غير درس لها، وتدين المسيح والمسيحيين ببعض آيات التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها كالآيات المتعلقة بملكوت السموات وكيف يدخلها الإنسان، ناسية قول القرآن: {آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}4.
وقسم كبير من عامة السوريين المسيحيين والمسلمين لم يعد مؤمناً الإيمان الديني ولكنه يتشبث بعنعنات من التحزبات الدينية، فهو قد فقد إيمانه الديني ولم يحصل على ثقافة وعلم يرسخانه في المعرفة ويهبانه نظرة شاملة في الحياة، ويساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصح، ونتج عن ذلك كله انحطاط كبير في الإدراك والتأويل وفساد في الاستنتاج وتصادم في النفسيات وفوضى في المنازع وتخبط في المذاهب. من هذا الباب العامي ما حبشه رشيد الخوري ليلقي على مدحه للإسلام وهجوه المسيحية صفة البحث، وبهذا التفكير العامي الضعيف الإدراك قال إن الناحية الدينية البحتة لا تتناول مسائل الآخرة والجنة والنار التي بها، لا بغيرها، صار الدين ديناً، ولولا مسائل الآخرة وخلود النفس والثواب والعقاب لما امتاز الدين بشيء لما زاد شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فلاسفة عظام، والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان الذي أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفية وعدم إسنادها إلى الاعتقاد بحياة أخرى بعد الموت تحاسب فيها الأنفس على ما تقيدت به من التعاليم المذكورة وما لم تتقيد به، فالوجهة الدينية البحتة هي العكس تماماً مما ذكره رشيد الخوري في حارضته الهجائية أي أن بلا الآخرة والجنة والنار لا تبقى للدين وجهة دينية بحتة.
ومن بدائع بيان هذا الناثر الهاجي أنه يُدخل المواضيع بعضها في بعض، فيشوش ذهن القارى الذي لا يكاد يشعر أنه يتتبع فكرة حتى يرى الكاتب قد أزاحها من أمام عينيه، كما يزيح صاحب صندوق الفرجة صورة «صاحب الخضراء» من أمام عيني الطفل قبل أن يستوعب جمال شكلها ليضع في محلها صورة «صاحب الأبجر». فبينما الخوري يحاول التنصل من تبعة إثارة التعصبات الدينية المريعة، إذا به يقطع حبل الفكر في هذه الناحية بغتة ويُدخل موضوع الدين الإسلامي في موضوع «الناحية» التي يعالجها على هذا الشكل:
«ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة وأشرت إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل الليم فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب، إلخ».
إن القارى ذا المنطق السليم يتوقع من «المحاضر» أن يعود بعد تمام جملة «العقل السليم»، فيعطف على نفسه ومبرراته ويقول مثلاً: «وإني أجد تبيان ذلك من الأمور الضرورية، إلخ»، ويختم هذا الموضوع معدّاً فكر القارى للانتقال إلى موضوع آخر. ولكن أصحاب الخلود الدنكيخوطي [Don Quixote] لا يفتأون يأتون بالمعجزات التي لم تخطر على قلب بشر، فليس للقارىء حيلة غير التسليم لسحر بيانهم الخاطف الأبصار والمحير العقول!
المهووس بالخلود مستعجل فافسحوا له المجال، لا تظنوا أن لجميع حدود المنطق قدرة على كبح جماحه، إنه أرعن، مُلحّ، لاجٌّ يقتحم سياجات العقل ويقفز من النوافذ إلى المجامع ويدخل بلا استئذان، إنه هاجٍ سفيه، من يقدر أن يقف أمام شتمه وسبابه؟
ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده وجاء الموضوع نفسه، ولا تسل كيف حدثت هذه العجيبة، ألم يأتك أن من البيان لسحراً، هكذا يكون السحر: {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر؟}1.
قال صاحب الحارضة الهجائية من فيض علمه:
«فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة، وهما وحدة لا تتجزأ إلا بالموت، ولم ينسَ العقل الذي يجمّل ويكمّل بناء البشر السوي بل لقد قدمه النبي2 على شريعته نفسها بقوله: الشرع عقل من خارج والعقل شرع من داخل، وقوله: دين المرء عقله فمن لا عقل له لا دين له، وقوله: لا يتم دين المرء حتى يتم عقله، فشُرِّف الدماغ البشري بهذه الآيات البينات أعظم تشريف… ولقد أشاد بذكر العلم وفضل العلماء وقال في هذا المعنى من الحِكَم ما يكاد يجمع كتاباً. ونحن لو بحثنا في الإنجيل لما وجدنا أي واحدة تذكر العلم بخير أو بشر».
هذا هو الموضوع وهنا بدء تفضيل الإسلام على المسيحية الذي قلنا إنه كفر بالإسلام الذي يتظاهر رشيد الخوري أنه آمن به. وبما أن الخوري قد خلط بين الدين والطريقة العلمانية في الكلام الذي شاء أن يسميه بحثاً، فلا بد من اقتفاء أثره في اعوجاجه والتوائه، إنه جعل هذا الكلام «بحثاً اجتماعياً فعلاً» فلنوافقه من أجل البحث.
جعل صاحب الحارضة أول تفضيل للإسلام على المسيحية ما ورد في الحديث النبوي من الأقوال عن العقل واتصاله بالدين، وإشادة النبي بذكر العلم وفضل العلماء، فارتكب عدة جرائم ضد الدين الإسلامي وضد الدين المسيحي وضد العقل الذي عرف محمد قدره فوصفه بما عرف. وأول جريمة ضد الدين الإسلامي أنه قدّم الحديث الشريف على القرآن وجعل هذا تابعاً لذاك ووضع كلام الرسول قبل كلام الله في تبيان جوهر الإسلام. والجريمة الثانية الكبرى هي أنه جعل الحديث النبوي حداً للآيات المنزلة وحكماً عليها، فإذا كان محمد قد قدّم العقل على الشريعة المنزلة، كما يقول هذا المنافق الدجال، فالشريعة قد أصبحت منقوضة وأصبح العمل بها على جهة التسليم بأحكام الله وحدوده باطلاً، وإذا أصبح العقل هو المقدم على الشريعة المنزلة فأية قيمة إلهية بقيت لتلك الشريعة؟، وأول جريمة ضد الدينين الإسلامي المسيحي
معاً هو مقابلته الإنجيل على الحديث النبوي، والإنجيل كلام إلهي في عرف الدينين المسيحي والإسلامي، فمن حيث المسيح هو عن المسيحيين ابن الله وروحه كان كلامه كلام الله ، وفي القرآن إنكار لكون المسيح هو الله أو ابنه من صاحبة ومشاركاً له في الحكم يوم الدينونة ولكن فيه إثبات لكون كلام المسيح كلاماً إلهياً باعتباره منزلاً عملاً بقوله: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك…}1 وجاء قول الله في سورة مريم2 {فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً. وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً… والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً. ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}. وفي سورة النساء3 {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته يوم القيامة يكون عليهم شهيداً}. وفي آل عمران4 {نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان..}.
كان الصحيح، من حيث البحث، أن يقابل القرآن على الإنجيل مقابلة كلام إلهي لكلام إلهي فلا يزين للمؤمنين أن يتبعوا غروره ونفاق، بهذا يقضي منطق العقل، ولكن الذي اختل منطقه واضطرب شعوره أيعرف الدين أو المنطق؟
بقي أن نعلّق على قول صاحب الحارضة المتقدم تعليقاً أوسع في ما يختص بما جعله أساس المفاضلة. إن وصف محمد الشرع بأنه عقل من خارج ووصفه العقل بأنه شرع من داخل إنما هو شي من التعليل الشعري الذي لا يعيّن تعييناً جازماً مركز العقل البشري من الشرع. وقوله: «لا يتم دين المرء حتى يتم عقله»، و«من لا عقل له لا دين له»، هو حثّ على عدم الجهل بالدين. ولا يشتمل على أية نظرة فلسفية شاملة في العقل. ولو اشتمل على هذه النظرة الشاملة وجعلها محمد قاعدة دعوته لكان اكتفى بأن يكون فيلسوفاً يذهب مذهب الفلاسفة المحكّمين العقل في كل الظواهر، الجاعلينه جوهر الطبيعة وميزة الإنسان فيكون، في هذا الباب، تلميذاً من تلامذة المدرسة السورية الفلسفية التي وضع قواعدها الفلسفية الفيلسوف السوري العظيم زينون وهو قبل محمد وقبل المسيح بزمان. ومن هذا الوجه ما كان يكون لمحمد فضل، إذ هو لم يزد مقدار ذر ة على مذهب الرواقيين في الفكر، إن ميزة محمد هي في أنه نبي لا في أنه فيلسوف، وميزة الإسلام هي في القرآن والشريعة الواردة فيه، لا في الحديث الذي هو من مجمّلات النبي وحسن نظره وسلامة فطرته.


هاني بعل
للبحث استئناف

الجهل المطبق


(الزوبعة)1، بيونُس آيرس، العدد (19)، 30/4/1941م

لنتابع خلط صاحب الحارضة. قال، فضّ فوه، بعد عبارته المتقدمة:
«فالإنجيل كتاب روحاني يُعنى بالآخرة فحسب ولا يعلم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح، فلا مجد عنده إلا مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشّر بها هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم. ولقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له قوله: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً» في حين جعلت المسيحية الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء عملاً بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية: «بع كل أملاكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني» ولعمري لو عمل كل غني بهذه الشريعة لأصبح الناس جميعاً مدقعين ولم يبقَ في الأرض من يستطيع أن يجود على فقير بفلس».
لا ننتظر أن يكون لرشيد سليم الخوري ضابط من جهله، لأن الضابط يكون من العلم ولا يمكن مطلقاً أن يكون من الجهل، فهو في الفقرة المتقدمة يستمر في غباوته ويتابع المقابلة بين المسيحية والإسلام على قاعدة أن الحديث النبوي هو الإسلام وشريعته. فقوله: «لقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له بقوله، (أي بقول الإسلام): «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، إلخ» يجعل الحديث النبوي في مقام الشريعة الإسلامية. وهو جهل ما بعده من جهل، فالإسلام لا يقول هذا القول وإنما الذي يقوله هو محمد [القول للإمام علي] لا الإسلام. وهنالك فرق أساسي جوهري بين الرسالة الإسلامية والحديث النبوي لا يغفله غير الجهال الذين يطلبون الكسب والثروة حتى بالتدجيل على الدين والعلم.
لما كان الخوري قد اتخذ في هذا الكلام صفة باحث متجرد عن الاعتقادات الدينية، وكنا آلينا على أنفسنا تتبعه في جميع التواءاته واعوجاجاته فإننا سنعالج هذه النقطة من وجهه الدراسة العلمية:
إن الكلام الذي ورد على لسان محمد أو قيل إنه ورد على لسانه يقسم إلى قسمين: قسم عزاه محمد إلى الله معلناً أنه نزل عليه وحياً إلهياً، وقسم لم يعزه إلى الله فهو حديث منه حدّث به في أوقات متفاوتة. فالقسم الأول فقط هو الإسلام والشريعة الإسلامية وفيه أوامر الله ونواهيه وحدوده، فلا يحق على المسلم إلا ما ورد فيه. والمشكوك فيه من القسم الأول آيات قليلة. أما القسم الثاني فليس الإسلام ولا الشريعة الإسلامية وإنما هو أقوال حكمية يستفيد المسلم منها في كيفية فهم نبيّه وفهم نظرته في بعض أحوال الدين والدنيا. وهذا القسم الثاني مشكوك في الكثير منه. ومع أن المتقدمين عزلوا المشكوك الذي سمّوه «مجروحاً» عن «الصحيح» فإن الأبحاث المستفيضة المتأخرة دلت على أن الكثير من الحديث النبوي المحسوب صحيحاً مجروح، أو غير صحيح فلم يعد يصح اعتماده حتى ولا في صفته المحدودة كحديث فاه به محمد من غير أن يعيّن شريعة أو نصاً يجب التمسك به.
بناءً عليه، لا يقول إن الحديث النبوي هو الإسلام الذي يعيّن للمسلمين طريق الحياة، غير جاهل جهلاً مطبقاً كرشيد الخوري الذي ظن أن استعارة بعض العبارات العلمية الصبغة وإطلاقها في معرض التدجيل لكفيلان بأن يسويا بين الجهل والعلم!
قلنا في المقالة السابقة إن المقابلة بين الإنجيل والحديث النبوي هي جريمة ضد الدينين المسيحي والإسلامي (الصفحة 85 أعلاه) للذين يعدون نصوصهما، أو نصوص أحدهما، فضلاً عن أنها دليل قاطع على جهل صاحب الحارضة أوليات «البحث» الذي تصدى له تزلفاً إلى أتباع الدينين المذكورين، غير عابىء بالعواقب الوخيمة التي يجرها مطلبه النفعي على أبناء أمة واحدة وهي الآن أحوج منها في أي زمن آخر إلى قتل روح التعصب الديني الذي لم تجنِ منه غير الويل.
ونقول هنا إن الجريمة قد كبرت بإقامة المثل الدنيا المادية، التي رأينا في ما تقدم من هذه المقالات الدراسية أن رشيد الخوري لا يعرف مُثلاً غيرها، مقام المثل العليا التي تتجه إليها جميع النفوس الطالبة الانتصار على المادية المعطلة للمزايا الإنسانية السامية. فالواضح من كلام صاحب الحارضة المتقدم أن المقياس الذي يسعمله لتفضيل الإسلام على المسيحية هو المقياس المادي، فبينا هو يصف الإنجيل بأنه «كتاب روحاني»، يقيم مادية الإسلام في مقابلها ويجعل المادية أساس فضائل الإسلام كلها، لأنه لم يتخذ غير الجزء المادي البحت من حديث نبوي [كلام للإمام علي] مشهور وهذا الجزء هو: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً».
رأى رشيد الخوري في هذا الجزء من أحد أحاديث محمد [كلام الإمام علي] أعظم حكمة في الإسلام. فقد انطبق هذا المثل على عقليته الرازحة بالمادية أيما انطباق فقال عنه: إنه جوهر الرسالة الإسلامية التي فسحت به «لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له». وبناءً على هذه القاعدة التي وجد فيها الخوري كل الإسلام وجوهر ما يفضل به على المسيحية لم يجد حرجاً في أن يطلب هو الكسب والثروة حتى باستباحة إثارة التعصب الديني وإراقة الدماء بين المسيحيين والمسلمين من السوريين.
إن أعظم فضيلة يراها رشيد سليم الخوري في الإسلام هي: اتباع الشهوات المادية وفسح المجال اللامحدود لها، بدلاً من كبحها وإحلال الفضائل النفسية المفضلة الإنسان على الحيوان محلها.
وهو، لعجزه عن طلب المثل الروحية العليا التي يراها في الإنجيل ولا يرى خرقاً فيها يمر منه إلى ماديته الحقيرة المخربة، يقول إن الإنجيل كتاب «يعني بالآخرة فحسب»، أي أنه يجب ترك تعاليمه جانباً، في كل ما يتعلق بالحياة البشرية. والانتهاء إلى هذه النتيجة هو شي طبيعي. فجميع الميالين إلى الشر والإجرام يبغضون القوانين المسنونة لمحاربة الإجرام، ويسبّون القضاة النزهاء الذين حكموا عليهم أحكاماً عادلة قاسية. وجميع الأولاد السيئي التربية في بيوتهم المعتادين على إطلاق العنان لشهواتهم ورغباتهم الجامحة يكرهون المعلم الذي يجتهد في تعليمهم طريق الفضائل ويسخرون من تعاليمه ويستهزئون بها.
لنأخذ هذا الدرس بالترتيب، لئلا يفوتنا شي من فوائده، لنعد إلى ما نقلناه في المقالة السابقة من كلام رشيد الخوري. وهو مع ما نقلناه هنا أساس النظريات التي يبني عليها الخوري تفضيله الإسلام على المسيحية. فبعد أن ذكر أقوال النبي في ضرورة صحة العقل للمؤمن قال إن من أهم ما يمتاز به الإسلام على المسيحية هو أن محمداً «أشاد بذكر العلم وفضل العلماء»، وأنه ليس في الإنجيل «أي واحدة تذكر العلم بخير أو بشر».
هذه المفاضلة السقيمة تظهر كم يجهل رشيد الخوري التاريخ الاجتماعي والتاريخ السياسي للبشرية، ومقدار جهله نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة الإسلام في بيئته. ومع أن المقابلة بين الإنجيل والحديث النبوي لا تصح من أساسها كما بيّنا آنفاً فلا بد لنا من تناول هذه القاعدة المتهدمة للمفاضلة لأنها تشتمل على سفسطة سهلة الشيوع عند العامة والخاصة الناقصة الثقافة لكمال سطحيتها ولإغفالها الحقائق الاجتماعية والتاريخية. فهي، من هذه الجهة، تكوّن خطراً على صحة الاتجاه الفكري وعلى الارتقاء النفسي نحو أجمل المثل العليا.
نشأت المسيحية في سورية بعد أن كان مضى عهد طويل على ارتقاء السوريين عن مرتبة البربرية التي بقي عليها العرب بعامل بيئتهم الطبيعية غير القابلة للعمران والتمدن، وبعد أن كان مضى زمن طويل على إنشاء السوريين أعظم مدنية عرفها العالم في التاريخ القديم وهي المدنية التي قامت على قواعدها المدنية العصرية.
نشأت المسيحية في بلاد كانت قد بلغت أوج العلم والتمدن وشبعت من الفتوحات في إفريقية وأوروبة، بلاد لم تكن في حاجة إلى من يحبب إلى شعبها العلم، لأنها كانت أسبق الأمم إليه ومنها تعلّم الإغريق والرومان فالتبشير بمحاسن العلم في أمة العلم ما كان يكون له وقعٌ غير وقع قولك للناس، الماء ضروري لأنه يُذهب العطش، والخبز يسد الجوع.
لم يكن المسيح يهودياً، ولم يكن له «آباء يهود» كما كان يقول صاحب الحارضة هاجياً إياه، بل كان سورياً يتكلم ويخاطب الجماهير بالسريانية. وهو نفسه رفض أن يدعى «ابن داود» كما أراد اليهود، فقال في ذلك: «كيف يقولون إن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فإذا كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟»1، بهذا القول قطع المسيح كل سبيل لقيامه على أساس التقاليد اليهودية القائلة إنه يكون يهودياً من نسل داود، فلا يصح أن يقال إن المسيح كان يهودياً فهو ابن البيئة السورية.
أما الإسلام فقد نشأ في العربة التي لا عمران فيها ولا تمدن، والعرب لم يرتقوا عن مرتبة البربرية ولم يعرفوا العلم، وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب والاحتيال ونظم الشعر. فحدثهم محمد بما يحتاجون إليه. ولذلك كان حديثه في محله وفي ما يحتاج إليه. فحثهم على طلب العلم، لأنه لم يكن لهم. وهو الذي كاد يضيق ذرعاً بهم فنزلت الآيتان: {الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حيكم}2… {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تَعْلَمُهم نحن نَعْلَمُهم سنعذبهم مرتين ثم يُردّون إلى عذاب عظيم}3.
وفي النصوص الإسلامية اعتراف صريح بأن الرسل يرسلون لهداية أقوامهم، وأن محمداً رسول إلى العرب خاصة بدليل قول القرآن: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه أي من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}4 و{إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}5 و{لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}6.
فواضح من الآية الأخيرة أن رسالة الرسول العربي الملقب بالأميّ اختصت بالعرب بعناية الله الذي أرسله هادياً لقومه كما أرسل غيره هادياً في أقوام أخرى. وهذه الهداية، لكي تكون مجدية، وجب أن تبتدىء من الدرجة التي عليها القوم لا من درجة فوقها. وهذه هي الهداية الصحيحة. فإن معلم المدرسة العالم الخبير لا يبتدى تعليم الأحداث علم الجبر والهندسة والمنطق قبل أن يكونوا أكملوا دروس الحساب والجغرافية والأشياء. ولو أن المسيح ومحمداً تبادلا الرسالة فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في سورية ولما كانت رسالة محمد ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في العُربة. لو كان محمد في سورية لما وجد حاجة للكرازة بأهمية العلم لأن السوريين كانوا السبّاقين فيه وإليهم يعود فضل تعليم العرب العلم والفلسفة كما تشهد بذلك التواريخ العربية عينها.
هاني بعل
للبحث استئناف

الفهم المُفْلِق


(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (20)، 15/5/1941م

ليست الرسالة الإسلامية هذه الرسالة المادية التي يصورها رشيد سليم الخوري ويقال إنها أطلقت الشهوات والمآرب المادية من كل قيد وأزالت من أمامها كل حد، بل هي رسالة روحانية قبل كل شي ومتجهة في الاتجاه عينه الذي تتجه فيه المسيحية ولكنها اضطرت، بحكم البيئة، لأخذ تأخر أو جمود الثقافة المادية في العربة بعين الاعتبار.
ولما كانت الثقافة النفسية العالية لا يمكن أن تقوم بدون قاعدة ثابتة من الثقافة المادية، فقد رأت الرسالة الإسلامية أن تهتم بشؤون الثقافة المادية لكي تهيى الانتصار على المادة والتسامي في عالم الروح. ولم تكن الرسالة المسيحية في حاجة للاهتمام بشؤون الثقافة المادية، لأن البيئة السورية كانت قد بلغت بها أبعد شأو.
لم يقل محمد [الإمام علي] في حديث له «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً» فقط. وهو لو اقتصر على هذا القول، لكان مذهبه الفكري هو الإغراق في المادية اللامحدودة، كما يقول الخوري. ولكن محمداً [علياً] قال: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فأخضع بهذا القول المادية إخضاعاً كلياً للروحية. فغرض السعي والكسب لم يعد للبقاء في المادة اللامحدودة، بل صار للوصول إلى المستوى الروحاني الذي ذهب المسيح إليه رأساً، لعدم حاجته إلى إعداد الأساس المادي لأن هذا كان موجوداً بكثرة. وكل من قرأ كتاب الزعيم (نشوء الأمم) يعلم أن المستوى العمراني السوري كان أعلى مستوى في التاريخ الاجتماعي قبل عصر الآلة الحديث. وبهذا يشهد جمهور علماء الأقوام البشرية والجغرافية الاقتصادية أمثال ويدال دي لبلاش [Vidal De La Blach] . ولا نترك هنا التحفظ السابق من جعل الحديث في مقام الإسلام.
إن المادية هي إحدى القضايا التي كان لا بد للإسلام من مواجهتها، ليتمكن من تقريب النفس العربية التي جففتها الصحراء إلى الحالة الروحانية التي لا يمكن أن تنشأ في حالة مقيدة للنفس. الجائع يجب أن يأكل ليصبح قادراً على التفكير في شؤون أخرى. والذي لم يتمكن من سد جوعه المادي ــــ الفيزيائي لا يشعر بالجوع الروحي، والنفسية المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقومات الحياة، إذا كانت النفس مؤهلة للارتقاء، أما المسيحية فلم تكن في حاجة إلى نظر في الحاجات المادية، لأن سورية كانت بلاداً يفيض الغنى فيها فيضاً. انظر ما جاء من نبوءة زكريا في التوراة: «وقد بنت صور حصناً لنفسها وكوّمت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق»1. فالبلاد التي كان الذهب والفضة فيها بكثرة التراب لم تكن في حاجة لمن يهديها إلى الكسب.
ولا شك في أن الرسالة المسيحية والإسلامية واحدة، وقد جاء محمد مصدقاً للرسالة المسيحية بكلام إلهي مثبت في القرآن وليس بمجرد حديث نبوي، ولو أن محمداً جاء قبل المسيح لكان المسيح صدّق الرسالة الإسلامية وعدّ رسالته مكملة لها من الحد الذي وقفت عنده، كما عدّها مكملة للرسالة الموسوية من عند الحد الذي وقفت عنده وهو الحد الذي يلتقي معه حد الإسلام في التشريع والقضاء والعناية بالعلاقات الاجتماعية من الدرجة الثقافية التي عليها الجماعة التي ظهرت فيها كل من الرسالتين المذكورتين.
ولقد كان التبشير والإنذار بعبادة الله وترك عبادة الأصنام جوهر الروحانية الإسلامية كما كانا جوهر الروحانية الموسوية. فصفة محمد في القرآن هي صفة «البشير النذير». وتلتقي الرسالتان الموسوية والمحمدية في البشارة والإنذار والتشريع. والآيات المتشابهة مبنى ومعنى من التوراة والقرآن كثيرة نقتصر على أمثلة قليلة منها: «فهوذا يأتي اليوم المتّقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود فلا يُبقي لهم أصلاً ولا فرعاً»2. {إن الساعة آتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}3. «اذكروا شريعة موسى عبدي الذي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام»4. {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}5. «وأقترب إليكم للحكم وأكون شاهداً سريعاً على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين زوراً وعلى السالبين أجرة الأجير والأرملة واليتيم ومن يصد الغريب ولا يخشاني قال رب الجنود»6. {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}7. «هكذا قال رب الجنود قائلاً اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمةً كل إنسان مع أخيه. ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير ولا يفكر أحد منكم شراً على أخيه في قلبكم»1 {ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم2 . {ولا يأتَلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}3.
ومن يقرأ سفر تثنية الاشتراع في التوراة، وفيه حدود الله في المعاملات والعقود، وسورتي البقرة والنساء ولا يجد بينها علاقة وثيقة في التشريع والقضاء والأحكام؟، والحقيقة أنها متشابهة إلى حد بعيد جداً. وإليك شيئاً من هذه الموازاة الشرعية بين التوراة والقرآن:
«ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه لأنه يكشف ذيل أبيه»4. {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً}5. «وإذا اضطجع رجل من امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه. إنهما يقتلان كلاهمان. دمهما عليهما. وإذا اضطجع رجل مع كنته فإنهما يقتلان كلاهما. قد فعلا فاحشة. دمهما عليهما»6. «وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة. بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم»7. «وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت هي عورته فذلك عار يقطعان أمام أعين بني شعبهما. قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه. وإذا اضطجع رجل مع امرأة طامث وكشف عورتها عرى ينبوعها وكشفت هي ينبوع دمها يقطعان كلاهما من شعبهما. عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته. يحملان ذنبهما. وإذا اضطجع رجل مع امرأة عمه فقد كشف عورة عمه. يحملان ذنبهما. يموتان عقيمين»8. {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللائي في حجوركم من نسائكم اللائي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً}9. «لا يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف العورة. أنا الرب. عورة أبيك وعورة أمك لا تكشف. إنها أمك لا تكشف عورتها، عورة امرأة أبيك لا تكشف. إنها عورة أبيك. عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها. عورة ابنة ابنك أو ابنة بنتك لا تكشف عورتها. إنها عورتك. عورة بنت امرأة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف عورتها. إنها أختك. عور أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك. عورة أخت أمك لا تكشف. إنها قريبة أمك. عورة أخي أبيك لا تكشف. إلى امرأته لا تقترب. إنها عمتك. عورة كنتك لا تكشف. إنها امرأة ابنك. لا تكشف عورتها. عورة امرأة أخيك لا تكشف. إنها عورة أخيك. عورة امرأة وبنتها لا تكشف. ولا تأخذ ابنة ابنها أو ابنة بنتها لتكشف عورتها. إنهما قريبتاها. إنه رذيلة. ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها. ولا تقترب إلى امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها. ولا تجعل مع امرأة صاحبك مضجعك لزرع فتنجس بها»1. ومن مقابلة هذه الآيات في التوراة القرآن نجد موضوع التشريع واحداً والحدود واحدة، فلنرَ أمثلة أخرى:
«وإذا باع رجل ابنته أَمَةً لا تخرج كما يخرج العبيد. إن قبحت في عيني سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك. وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها»2. والمحْصَنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محْصِنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليماً حكيماً}3 «إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها» . 4{وإن خفتم ألا تُقسِطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورُباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تَعُولوا}5 .
«إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شي وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست، لأن ذلك رجس لدى الرب»6. {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}7. والحكم في القرآن هو العكس تماماً لما في التوراة، ولكن مقصد الشارع واحد وهو تقييد الطلاق. وهكذا فسر مفسرو الإسلام حكم هذه الآية.
وورد في القرآن فيما يختص بالطمث الوارد عنه في التوراة، وهو مثبت فوق، هذه الآية: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}1 .
ووردت أيضاً متشابهات أحكام الزنى والربا والسرقة وما شاكل من قوانين الجزاء.
ولا نطيل الشرح في أن هذه الآيات التشريعية متساوية في الأساس متشابهة في الشكل فيما يختص بالحالة الشرعية للأزواج والإماء، وفيما يختص بالمحللات والمحرمات في المأكل. ونضيف إلى هذا الاتفاق بين الدينين في الأحوال المدنية، الشخصية، الاتفاق في شؤون الدولة الدينية:
«من وسط أخوك تجعل عليك ملكاً. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبياً ليس هو أخاك (أي أخاك في ملتك)»2 ، وهذه الوصية من سفر التثنية الإصحاح (17ــــ 15). ويقابلها في القرآن: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً}3 {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطاناً مبيناً}4 .
في هذا القدر كفاية لإثبات اتفاق الدينين الموسوي والمحمدي في أساس تشريعي واحد، وسيأتي تبيان أسباب هذه الاتفاقات والمشابهات في ما يلي من هذا البحث.
هاني بعل
للبحث استئناف

ما لم يُعطَ للجهّال

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (21)، 1/6/1941م

وجدنا، من مقابلة أحكام القرآن وحدوده على أحكام التوراة وحدودها، أن نصوص الشريعتين الموسوية والمحمدية واحدة مع فوارق شكلية قليلة لا تغيّر شيئاً من وحدة الأساس. فالله قد أوحى إلى محمد، في القرآن الشريعة عينها التي أوحاها إلى موسى وجميع النبيين الذين تقدموا محمداً، كما هو مثبت في القرآن. والله قد أوحى إلى محمد آيات مسيحية أيضاً ولكن الشعب الذي أرسل إليه محمد لم يكن من الإدراك والثقافة بحيث يميل إلى الأخذ بالتعاليم العليا، وكانت حاجته ماسة إلى الأساس القانوني الذي يجمع بين قبائله المتشعثة ويضمن العلاقات ويحدد طرق المعاملة، فلا تكون معلقة على تعاليم الفلسفة المناقبية التي علّمها المسيح وجعلها تاجاً للشريعة وحكماً عليها، وكانت الانتصار الأول للثقافة النفسية على حدود الشرع الجامدة. فانتصار العقل على الشرع حدث أولاً بظهور التعاليم المسيحية، وأعظم أسباب نقمة اليهود على المسيح هو كونه خرج على نصوص الشرع، وقال بتأويل الشرع لما يفيد الحياة ويحسنها، بدلاً من التقيد بالنصوص، كما هو الحال في القرآن والتوراة. المسيح هو الذي قال: «لا تحكموا بحسب الظاهر لكن احكموا حكماً عادلاً»1 وهو قال هذا القول، لأن اليهود نقموا عليه لإبرائه إنساناً يوم السبت المحرم العمل فيه عند اليهود حسب شريعة موسى، وكان قد قال قبل هذه الآية: «إن موسى أعطاكم الختان لا أنه من موسى بل من الآباء فتختنون الإنسان في السبت. فإن كان الإنسان يختن في السبت لئلا تنتقض شريعة موسى أفتسخطون عليَّ لأني أبرأت الإنسان كله في السبت»2. وكان اليهود يعترضون ليس فقط على إبراء الرجل في السبت، بل أيضاً على حمل الرجل سريره بعد شفائه، لأنه لم يكن يجوز في شريعة موسى أن يُعمل شي يوم السبت.
وكان الكتبة والفريسيون يجادلون المسيح دائماً ويحاولون أن يأخذوه بجريرة مخالفة الشريعة. والإنجيل مشحون بهذه المحاولات. وأهم محاولة كانت هذه: «ومضى يسوع إلى جبل الزيتون. ثم رجع باكراً إلى الهيكل فأقبل إليه الشعب كلهم فجلس يعلمهم. وقدّم الكتبة والفريسيون إلى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط. وقالوا: يا معلم إن هذه المرأة قد أخذت في الزنى. وقد أوصى موسى في الناموس (الشريعة) أن ترجم مثل هذه فماذا تقول أنت؟ وإنما قالوا هذا تجريباً له ليجدوا ما يشكونه به. أما يسوع فأكب يخط بإصبعه على الأرض. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر». ثم أكب أيضاً يخط على الأرض. أما أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً وكان الشيوخ أول الخارجين وبقي يسوع وحده والمرأة قائمة في الوسط. فانتصب يسوع وقال لها: «يا امرأة أين الذين يشكونك؟ أما حكم عليك أحد؟» قالت: «لا يا رب» فقال يسوع: «ولا أنا أحكم عليك اذهبي ولا تعودي تخطئين»1.
في هذا المثل يظهر الصراع بين العقل والشرع بأجلى مظاهره. الشرع واضح لا شك فيه: الزانية ترجم في التوراة وفي القرآن تجلد كما جاء في الآية: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}2، فلم يقتصر المسيح على قوله المطل «لا تحكموا بحسب الظاهر لكن احكموا حكماً عادلاً»3، بل وقف وحمل مسؤولية كلامه. ولم يضع شريعة جديدة تحل محل الشريعة السابقة في أمر الزنى، بل علّم بتحكيم العقل ليكون الحكم عادلاً وإن خالف نص الشريعة. وهو ما لم يجر مثله في القرآن أو الحديث وذلك لما بيناه آنفاً من أن محمداً أرسل إلى قوم كانوا مضطرين إلى ما كان مضطراً إليه العبرانيون: شريعة توجد لهم نظاماً يوضح لهم المعاملات والحدود والجزاء، بدلاً من عادات الثأر والغزو واستبداد القوي التي لا تقيم نظاماً. ولذلك نشأ هذا التوافق الكلي بين الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه، كما في الآية: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحُرّ بالحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى..}4، وفيها جوهر الجزاء المذكر في شريعة موسى.
وهذا يؤيد كون محمد أُرسل ليهدي بيئة لم تكن لها شريعة من قبل، وإلا لما وجد الوحي حاجة لتكرار ما ورد في التوراة وجاء محمد مصدقاً له. وإذا كان قد بقي في ذهن أحد شي من الشك في ما نقوله حتى بعد ما أوردناه من الآيات القرآنية، فإننا نؤيده بآيات أخرى كهذه الآيات: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أمّ القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير}5 وهذه الآية هامة جداً، لأنها مكية، أي من الآيات التي لم يكن قد دخل فيها العامل السياسي الذي نلحظه في الآيات المدنية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}1، {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً}2.
وقد أثبتنا في الحلقة الرابعة عشرة من هذه السلسلة (الصفحة 90ــــ 92 أعلاه) شيئاً من وصف القرآن لبيئة محمد. ولعل هذه الآية تعطي وصفاً أدق لتلك البيئة: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله لا يَلِتْكُم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم}3.
هذه البيئة العريقة في البداوة لم تكن مؤهلة لإدراك الإيمان الروحي وفهم تعاليم الفلسفة المناقبية، إنها بيئة لا تزال دون مرتبة هذه الفلسفة بمراتب. ولذلك أخذت السور المدنية وجهة أقرب إلى البيئة وعقليتها من وجهة السور المكية. ولذلك كان ظهور روحانية الرسالة الإسلامية خارج العُربة في سورية وفارس والأندلس. أما أهل العُربة فظلوا تحت حكم الآية المذكورة أخيراً إلى اليوم، أي أنهم أسلموا لكن الإيمان الحقيقي لمّا يدخل قلوبهم. وهذه الحالة التي يشجبها القرآن هي التي يمدحها صاحب الحارضة الهجائية الذي لم يفهم من الإسلام إلا بقدر ما فهمته الأعراب، ولم يعرف شيئاً صحيحاً عن المسيحية أو عن الإسلام، وكان أحوج الناس إلى سماع محاضرات في هذين الدينين ونشأتهما وطبيعة كل منهما، ولذلك قال عن الإسلام الذي وضع شرعاً يسمونه في علم الحقوق والسياسة «جامداً Rigido » إنه وضع القواعد الروحية ــــ الفكرية للتغلب على الشرع، وقال عن المسيحية التي علّمت تعاليم فلسفية مناقبية لتأويل الشرع على ما يوافق الأفضل للحياة الجيدة حسب حكم العقل إنها دين «يقتل المواهب ويهيض الأجنحة و يعصب على العيون، إلخ».
بعد الذي بيّناه في ما تقدم من هذه الحلقة نعود إلى نقطة هامة جداً وعدنا، في الحلقة السابقة، أن نعالجها في هذه الحلقة وهي: أسباب الاتفاقات والمشابهات بين الرسالتين الموسوية والمحمدية اللتين لهما أساس واحد هو الشرع الذي رأينا أن أحكامه واحدة في التوراة والقرآن.
ألمعنا في ما تقدم من هذا البحث، خصوصاً في الحلقتين الأخيرتين، إلى أن الرسالة الإسلامية هي أيضاً رسالة روحية تتجه في اتجاه الرسالة المسيحية عينه، ولكنها اضطرت لأخذ الأساس المادي بعين الاعتبار وتقديمه في المعالجة على البناء الروحي.
والحقيقة أن الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين: القسم الأول وهو المكي السابق للهجرة وفيه الآيات المكية المتجهة اتجاهاً روحياً، على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف والاختبارات والأفكار والتصورات. والقسم الثاني هو المدني المشتمل على الآيات المدنية واتجاهه نحو شؤون أوليات الاجتماع وضروريات بداءة إنشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب، ويحل محل العادات والعرف المقتصرة على القبائل وعلى حالات قليلة تقوم عليها الصلات بين القبائل التي كانت كل قبيلة منها كأنها أمة ودولة قائمة بنفسها، لا يجمع بينها غير عادة أو فريضة الحج إلى الكعبة والاصطلاح على ترك الغزو والثأر في شهر معين من السنة.
وفي هذا القسم يظهر عاملان رئيسيان هما: التشريع والسياسة. أما التشريع فلإقامة نظام عام يلغي خصوصيات القبائل ويوحد العرب. وأما السياسة فلجعل نجاح الرسالة ونظامها ممكناً. وهذا العامل الأخير يظهر في أمر الجهاد الذي يغري العرب بالغزو والسلب، وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أُحُد، وفي تشويق العرب بصور الجنة المادية وفي التساهل في شؤون حياتهم، خصوصاً في النساء وتعدد الزوجات، مراعاة لشهوات الصحراء الحادة ولاقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب، ووقوف حياتهم الفنية والروحية على الفرس والرمح والمرأة. والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي ولذلك عدّ القرآن هذه الناحية مع ناحية الصور المادية للجنة حتى في الآيات المكية كما في قوله: {الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تُحبَرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيا ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}1 وقوله: {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس واستبرق متقابلين كذلك وزوّجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم}2 (سورة الدخان مكيّة).
التشريع في السور المدنية مع العامل النفسي ــــ السياسي الذي ازداد قوة في هذه السور هما اللذان أعطيا الإسلام أعظم فاعليته. يضاف إلى ذلك كون النبي عربياً يخاطب جماعته رأساً: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}3. وبلغتهم: {كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون}4، وكون الرسالة إلهية أقوى في النفوس على الأصنام.
ولما كان هذا العاملان: التشريع والسياسة النفسية والعملية هما الأشد تأثيراً والأعظم شأناً في النفسية العربية العامة فقد قُدمت الآيات المدنية، حين جمع القرآن، على الآيات المكيّة إلا سورة الفاتحة وهي آيات قليلة. والسبب هو أن السور المدنية تشتمل على أصول المعاملات وقوانين العقود، وهي الممتازة بالحث والتحريض على الجهاد ومحاربة الكفار وزينة الجنة.
وقد أثبتت التواريخ العربية لسير الحركة الإسلامية وفتوحاتها شدة تأثير هذين العاملين في النفوس وعظم فاعليتهما. من ذلك ما ورد في (فتوح الشام) للواقدي. وروايته أنه لما عزم الخليفة أبو بكر على فتح سورية بدأ يوجه إليها الجيوش وكان أول من عقد له يزيد بن أبي سفيان على ألف فارس وربيعة بن عامر على ألف فارس. فأخذ يزيد، وكان مقدماً على ربيعة، يجد في السير ولا يرحم الجيش، فخاطبه ربيعة في ذلك فقال: «إن أبا بكر رضي الله عنه سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت أن أسبق الناس إلى الشام فلعلنا أن نفتح فتحاً قبل تلاحق الناس بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال: رضاء الله عزَّ وجلَّ، ورضاء خليفتنا، وغنيمة نأخذها»1 وفي خبر نزال خالد بن الوليد لكلوس في حرب دمشق أن خالداً أجاب منازله: «وأما ما ذكرت من بلادنا وأنها بلاد قحط وجوع فالأمر كذلك إلا أن الله تعالى أبدلنا ما هو خير منه فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل»2 وهو ما وجدوه في الشام. وفي جواب خالد بن الولد لوردان في واقعة دمشق: «إن الله عزَّ وجلَّ أغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم نتقاسمها بيننا وأحلّ لنا نساءكم وأولادكم»3. ولمّا بلغت أخبار انتصارات المسلمين الأولى في سورية إلى مكة تحرك أكابرها وأقبلوا على أبي بكر، وفي طليعتهم أبو سفيان والغيداق بن وائل، يستأذونه في الخروج إلى سورية. روى الواقدي4: «فَكَرِهَ عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم «فإن في قلوبهم حقائد وضغائن والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ونحن مع ذلك نقول ليس مع الله غالب. فلما [سمعوا] أن الله أعزّ ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفاً من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين»، فسمع أبو بكر كلام عمر بن الخطاب وأدرك أهل مكة السبب فاجتمعوا إلى أبي بكر وتظاهروا أمامه بصدق إسلامهم فرضي عليهم أبو بكر»، هذه أمثلة من أمر تأثير الجهاد وما يجلبه من الغنائم.
أما أمر الجنة ونعيمها المادي وزينتها فقد روى الواقدي5 أن رافع بن عميرة الطائي، أحد أبطال المسلمين، حدّث عن حزنه على موت يونس (أحد الدمشقيين وقع في الأسر قبل فتح دمشق وأسلم)1 في الحرب قائلاً: «فحزنت عليه وأكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي رجليه نعلان من الذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له: «ماذا فعل الله بك؟»، قال: «غفر لي وأعطاني بدلاً من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في الدنيا لكف ضوء وجهها نور الشمس والقمر فجزيتم في الله خيراً»، فقصصت الرؤيا على خالد (بن الوليد) فقال: «ليس لي والله سوى الشهادة طوبى لمن رزقها».
نقف عند هذا الحد في هذه الحلقة ونتابع الموضوع في الحلقة التالية.
هاني بعل
للبحث استئناف

ولم يتمكن منه المنافقون


(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (22)، 15/6/1941م

لا بأس من إيراد بضعة شواهد أخرى تعزيزاً لصدق التعليل الذي نعلله، وتأييداً لصحة النتائج التي نستنتجها، في صدد العامل السياسي النفسي للدعوة المحمدية والحركة الإسلامية، أي عامل الجهاد ومغانمه في هذه الدنيا، وثواب الجن ولذّاتها.
نورد هنا كتاب خالد بن الوليد الذي كتبه إلى الخليفة أبي بكر، الذي كان قد توفي ولم يبلغ خالداً خبر وفاته، يخبره بدخوله دمشق فاتحاً، وهذا نص الكتاب كما ورد في تاريخ الواقدي1:
«بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله ، صلّى الله عليه وسلم، من عامله على الشام خالد بن الوليد (وكان أبو عبيدة لا يزال كاتماً عنه أمر الخليفة عمر بن الخطاب بعزله وتولية أبي عبيدة مكانه) أما بعد سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد، للهژ ، وذلك أنّا لم نزل في مكايدة العدو على حرب دمشق حتى أنزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق عنوة (والواقع بخيانة القسيس يونس كما هو مثبت في التاريخ المذكور عينه) بالسيف من باب شرقي وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم وصالحوه على الباب الآخر ومنعني أن أسبي وأقتل. ولقيناه على كنيسة يقال لها كنيسة مريم وأمامه القسوس والرهبان ومعهم كتاب الصلح. وإن صهر الملك توما وآخر يقال له هربيس خرجا من المدينة بمال عظيم وأحمال جسيمة فسرْت خلفهما في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من أيديهما وقتلت الملعونين، إلخ».
وكان أن الخليفة عمر غضب لعدم تبليغ المسلمين خبر وفاة أبي بكر وقيامه خليفة من بعده، وأمره بعزل خالد بن الوليد من إمارة المسلمين في سورية وبإقامة أبي عبيدة بن الجراح أميراً بدلاً منه. وفي اليوم التالي لورود كتاب خالد بن الوليد المذكور آنفاً صلّى صلاة الفجر. روى الواقدي:
«وقام فَرَقِيَ المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول، لله (ص)، فصلّى عليه وترحم على أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، ثم قال: أيها الناس، إني حملت أمانة عظيمة، وإني راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته وقد جئت لإصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر في هذا البلد، فإني سمعت رسول الله لله (ص) ، يقول: «من صبر على أذاها وشرها كنت له شفيعاً يوم القيامة» وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ماء أوقر به الإبل [ولا ما أورق به على الإبل] إلا من مسيرة شهر. وقد وعدنا الله مغانم كثيرة وإني أريدها للخاصة والعامة، إلخ»1.
الشاهدان المذكوران فوق ليسا قول من لا شأن له من عامة الناس وجهلتهم، بل هما قول خليفة وقول أمير جيوش اشتهر بلقب «سيف الإسلام»، ويحسن أن نضيف شاهدين آخرين ليتيقن القارى من مقدار تأثير زينة الجنة، فضلاً عن الغنائم والسبي على نفوس المجاهدين:
«سار عبد الله بن جعفر ليلحق بالمجاهدين، وكان أبوه قد قتل في تبوك، فلما بلغها طلب أن يدلّوه على قبر أبيه فنزل عليه وأقام عنده ومعه عبد الله بن أنيس الجهني وصحبه إلى الصبح، فلما رحلوا في الصباح نظر ابن أنيس وإذا عبد الله بن جعفر يبكي ووجهه مثل الزعفران، فسأله ابن أنيس عن ذلك، فقال: «رأيت البارحة أبي في النوم وعليه حلتان خضراوان وتاج له جناحان وبيده سيف مسلول أخضر فسلمه إليّ وقال يا بني قاتل به أعداءك فما وصلت إلى ما ترى إلا بالجهاد»2 .
وفي وقعة اليرموك أخذ أبو هريرة يحرّض قومه على القتال ويقول: «أيها الناس، سارعوا إلى معانقة الحور العين في جوار رب العالمين»8.
أثبتنا الشواهد والتفاصيل المتقدمة، في هذه الحلقة والحلقة السابقة، لكي لا يظن أحد أننا نرسل الكلام اعتباطاً ونبني تآولينا واستنتاجاتنا على الظن والوهم، كما فعل رشيد سليم الخوري حين أخذ يهرف عن الإسلام، بما لا يعرف، ويرمي المسيحية بما هي براء منه في حارضته التي سماها «محاضرة».
والآن نعود إلى التشريع، بعد أن أظهرنا أهميته للعرب الذين لم يكن لهم ما كان للسوريين من الشرع المدني. ونريد أن نبين في ما يلي أسباب وحدة الشرع في الدينين الموسوي والمحمدي، وأسباب أهمية الشريع وتقديمه عند العرب على غيره من الرسالة الإسلامية بإثبات السور التشريعية في صدر القرآن، مع أن حقها من الوجهة التاريخية والروحية، أن تكون في عجزه.
قلنا في الحلقة السادسة عشرة من هذا البحث (الصفحة 100 أعلاه):
«إن محمداً أرسل إلى قوم كانوا مضطرين إلى ما كان مضطراً إليه العبرانيون: شريعة توجد لهم نظاماً يوضح لهم المعاملات والحدود والجزاء، بدلاً من عادات الثأر والغزو واستبداد القوي التي لا تقيم نظاماً. ولذلك نشأ هذا التوافق الكلي بين الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه، إلخ».
وإننا نجعل هذا القول نقطة الابتداء في هذا الموضوع الهام.
ولكي لا يبقى مجال لحسبان القول المتقدم مجرد استبداد مبني على الافتراض نعرض لشأن العبرانيين أولاً. المتعارف عن هذه الجماعة، وكله أو جلّه مبني على روايات كتابهم في التوراة، أنها في الأصل عائلة يعقوب انتقلت بسبب قحط أصاب الأرض، إلى مصر حيث كان يوسف أحد أبناء يعقوب قد حصل على مركز وزير عند فرعون. وإنها تكاثرت في مصر وصارت شعباً كثيراً استعبده المصريون حتى جاء موسى مرسلاً من الله ، وأنقذه من العبودية تحت حماية يهوه الذي أغرق فرعون ومركباته في البحر. ثم إن موسى أبقى هذا الشعب في صحراء سيناء أربعين سنة عاش فيها على المنّ والسلوى، وبعدها أخذ يتأهب لاقتحام «أرض الميعاد». وفي أثناء وجود هذه الجماعة في الصحراء السينائية تقدم موسى إليها بالمواد الشرعية الأولى: الوصايا العشر، وتبعتها الأحكام التفصيلية المشتملة على الجزاء (العقوبات) وعلى قوانين المعاملات والعقود.
هنا يخطر للباحث المدقق سؤال هام جداً وهو: ألم يكن عند المصريين، الذين كانوا قد أسسوا دولة، شرائع اقتبسها، أو بعضها، عنهم الإسرائيليون، حتى وجب أن يعلمهم الله أوليات النظام الاجتماعي المدني، كأن يكرم الواحد أباه وأمه وأن لا يسرق ولا يكذب ولا يشهد بالزور وأن لا يزني، إلخ؟، ألم يكن العبرانيون متبعين عادات وقوانين مدنية مصرية؟
لا تشير التوراة إلى شي واضح عن النظام الذي كان يعمل به الإسرائيليون قبل هبوط الوحي على موسى في طور سيناء، وهبوط الوحي بالوصايا العشر يدل على أن اليهود لم يكونوا يعرفون أو يعملون بهذه الأوليات كقاعدة عامة في حياتهم. وهنا يبدأ الشك في أن اليهود كانوا عرفوا مصر قبل دخولهم أطراف القسم الجنوبي من سورية. ويأخذ هذا الشك يتأيد في عدم وجود ذكر أو دليل لمأساة البحر الأحمر التي تشير إليها التوراة ويؤيدها القرآن. فليس هناك فرعون واحد هلك في البحر في تتّبعه شعباً غريباً هارباً من مصر. والمرة الوحيدة التي تتّبع فيها المصريون قوماً غرباء كانت حين انتفض المصريون على دولة الهكسوس السورية التي اجتاحت مصر وأخضعت المصريين إلى أن ثار عليها هؤلاء وتغلبوا عليها، فرجع الهكسوس إلى سورية وتبعهم المصريون وحاربوهم في وادي مجدو وتبعوهم إلى الشمال. وقد حاول بعض مؤرخي العبرانيين أن يوجدوا صلة بين تاريخهم وتاريخ الهكسوس ولكن الأدلة التاريخية جاءت ضد هذه المحاولة التي لم تكن الأولى من نوعها لانتحال العبرانيين تواريخ الأقوام المجاورة.
الأرجح، في هذا الصدد، هو ما ذهب إليه المستشرق المحقق الكبير غيتاني (Gaetani) في كتابه (Studi Di Storia Orientale) الذي يجزم بأن اليهود أو العبرانيين لم يكونوا قط في مصر، مستنداً إلى تحقيقات تاريخية وجيولوجية وجغرافية، فهو يثبت أن العبرانيين لم يكونوا سوى قبائل بدوية موقعها شمال شرق سورية، في بقعة كانت تدعى قديماً «مصرو» (Misru) وأن اليهود تعمدوا الخلط بين هذه البقعة ومصر المعروفة اليوم ليوسعوا تاريخهم، وليتمكنوا من انتحال حكاية يوسف التي نقلوها مما بين النهرين وجعلوا حوادثها تجري بين سورية ومصر. ويؤيد هذه النظرية ما ورد في المراسلات المكتشفة في تل العمارنة في مصر التي تبودلت بين أمراء فينيقيين والفرعون وفيها أخبار غزو قبائل «الحبيرو» أي البدو لبعض القرى والمدن الجنوبية.
فاليهود لم يكونوا، قبل مجيئهم إلى سورية، يعرفون نظاماً اجتماعياً مدنياً، لأنهم كانوا في حالة بداوة بربرية، ولم يكونوا تمدنوا لا في مصر ولا في مكان آخر. فهم، والحالة هذه، كانوا يشبهون العرب من كل وجه في ما يختص بمرتبتهم الاجتماعية وحاجاتها. فلم يكن لهم قوانين وأنظمة عامة تضبط معاملاتهم وتعاقب مجرميهم بدلاً من ترك أمرهم لعادة الثأر، فلما أصبحوا على حدود المدنية السورية وصحّ عزمهم على دخولها والتحضر في سورية، وجدوا أن حاجتهم الأولى هي إلى نظام يؤهلهم لذلك. وكان للكنعانيين (سوريــي الجنوب) نظام اجتماعي راقٍ وقانون مدني وجزائي ينص على المعاملات والعقود والعقوبات، كما أثبت ذلك الأستاذ ألمستد أستاذ أستاذ التاريخ القديم في جامعة كولومبية، الولايات المتحدة، وهو أحد معاوني المحقق التاريخي الشهير برستد. وقد أثبت الأستاذ ألمستد هذه الحقيقة في كتابه بالإنكليزية (تاريخ فلسطين وسورية حتى الفتح المكدوني). ومن مقابلة الشرع الموسوي على الشرع الكنعاني نجد أن ذاك استمد نظرياته وأحكامه من هذا.
ولمّا لم يكن اليهود أهل تمدن من قبل لم يكن من السهل أخذهم بالنظام المدني والعمل به. فكان لا بد من إخضاعهم للشريعة إخضاعاً، وهذا الإخضاع لا يمكن أن يكون بواسطة شرطة وقضاء وسلطة، لأنهم كانوا قبائل لا تعرف نظاماً مدنياً وكل ما تعرفه عادات بسيطة وعُرَفٌ لا تضبط التصرفات والأعمال ولا تعيّن الحقوق الفردية. فبأي واسطة، إذاً، يمكن إخضاعهم؟ بواسطة سلطة خفية رهيبة وغير منظورة: الله ، يهوه الذي ينتقم من المخالفين للشرائع والأحكام، المفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع. وهكذا تحولت الشريعة الكنعانية المدنية القابلة للتطور والتغيير حسب تطور الاجتماع والعمران، لأنها صنع بشر، إلى شريعة دينية جامدة (Rigida) لا تقبل التطور والتغيّر، لأنها صارت أحكام الله الكلي المعرفة القادر على كل شي، المعصوم عن الغلط. ومع أن هذا التحويل كان يقضي بجمود الشرع فلم يكن هناك طريقة أخرى لإعطاء اليهود شريعة تجمع أسباطهم وتوحد أمرهم.
هذه هي الطريقة الوحيدة لجميع الشعوب والقبائل التي لا تزال في حالة بداوة أو بربرية. وقد عرض ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، لهذه الحالة فكتب الفصل السابع والعشرين من الفصل الثاني من الكتاب الأول لمقدمته، وجعل عنوانه: «في أن العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة». وذكر ابن خلدون سبب ذلك بقوله: «السبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، إلخ»1. وفات ابن خلدون أن يذكر في الأسباب فقدان النظام الاجتماعي التمدني، ولسنا هنا في مجال يسمح لنا بالإطالة في هذا الصدد.
يضعنا كلام ابن خلدون المذكور آنفاً في موضوع النظر في العرب وشؤونهم، وهو نفسه يقودنا في هذا الطريق فيصف العرب من حيث توحشهم وغلظتهم وصعوبة مراسهم. ولكننا نحن لا نريد التوغل في مسائل الطباع، بل نكتفي بالقول إن حالتهم البدوية لا تسمح بتولد شريعة بينهم ترقي حياتهم بالنمو الاجتماعي والاختبارات الاجتماعية المقتصرة على حالات أولية معدودة ومحدودة. وفرض شريعة عليهم تمنعهم من وأد بناتهم ومن أخذ الأختين زوجتين ومن الثأر بلا حساب، وتخضعهم لقانون واضح ينص على المعاملات والعقود والعقوبات، لم يكن ممكناً إلا عن طريق الدين. والدين ما كان يمكن أن يكون مفهوماً عندهم عن غير طريق المعاملات والعقود والوعود بالجزاء المادي الحسن، كأكل الفاكهة في الجنة ولبس السندس، كل ذلك في جنات وعيون يتزوجون فيها بحور عين.
ولولا الشرع الذي تكرر إيحاؤه لمحمد بعد موسى لما كان حصل اجتماع أمر العرب في الإسلام، ولولا النظام الذي دعا إليه محمد لما كان ممكناً أن تنجح الفتوحات الإسلامية ويثبت أمر المسلمين فيها. بل لكنّا رأينا العرب يتزاحمون على الأسلاب والغنائم لا يردعهم رادع ولا يزعهم وازع، فيتفككون بأسرع من لمح البصر.
ولمّا كانت حالة العرب تقتضي ما اقتضته حال العبرانيين فقد تكرر لهم الشرع عينه الذي أوحِيَ للعبرانيين بواسطة موسى. ولذلك نرى الشريعتين الموسوية والمحمدية تنصان على حالة واحدة أحكاماً واحدة. وهذه الحالة هي حالة أولية يحتاج فيها الناس لمثل هذه الأحكام.
وقد يعجب السوري المتمدن لماذا وجب أن تنص الشريعتان الموسوية والمحمدية على عدم جواز الجمع بين الأختين، مثلاً. ولكي يزول عجبه نقول إن ذلك كان ضرورياً، ومثل الحالات التي نص عليها القرآن كان لا يزال واقعاً حتى في أيام الخليفة عمر بن الخطاب وبعدها، وإثباتاً لهذه الحقيقة نثبت ما أورده الواقدي1 في تاريخه المذكور:
«قال عمرو بن مالك العبسي: كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمرّ على ماء لجذام عليه طائفة منهم نزول، والماء يدعى ذات المنازل. فنزل (عمر) بالمسلمين عليه فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حوله إذ أقبل إليه قوم من جذام فقالوا: يا أمير المؤمنين إن عندنا رجلاً له امرأتان وهما أختان لأب وأم، فغضب عمر وقال: عليّ به فأوتي بالرجل إليه فقال عمر: ما هاتان المرأتان؟، قال الرجل: زوجتاي، قال: هل بينهما قرابة؟ قال: نعم، هما أختان قال عمر: فما دينك ألست مسلماً؟ قال: بلى، قال عمر: وما علمت أن هذا حرام عليك والله يقول في كتابه: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف}2؟ فقال الرجل ما علمت وما هما عليّ بحرام. فغضب عمر وقال: كذبت والله إنه لحرام عليك ولتخليّن سبيل إحداهما وإلا ضربت عنقك. قال الرجل: أفتحكم عليّ؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو. فقال الرجل: إن هذا دين ما أصبنا فيه خيراً ولقد كنت غنياً عن أن أدخل فيه. قال عمر اُدْنُ مني. فدنا منه فخفق رأسه بالدرة خفقتين. وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه (شعب الله الخاص) خلِّ يا ويلك، سبيل إحداهما وإلا جلدتك جلدة المفتري! فقال الرجل: كيف أصنع بهما وإني أحبهما ولكن أقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي، وإن كنت لهما جميعاً محباً. فأمر عمر فاقترع فوقعت القرعة على إحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية. ثم أقبل عليه عمر وقال: اسمع يا ذا الرجل وعِ ما أقول لك إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه فإياك أن تفارق الإسلام وإياك أن يبلغني أنك قد أصبت أخت امرأتك التي فارقتها فإنك إن فعلت ذلك رجمتك».
«وسار عمر حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه أن شيخاً على الماء وله صديق يوده فقال صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيباً وأكفيك رعيك إبلك والقيام عليها ولي فيها (الزوجة) يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة. قال الشيخ قد فعلت ذلك ورضي، فلما أُخبر عمر بذلك أمر بهما فأُحضرا فقال: يا ويلكما ما دينكما؟ قالا: الإسلام قال عمر فما الذي بلغني عنكما؟. قالا: وما هو؟ فأخبرهما عمر بما سمعه من العرب. فقال الشيخ قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام؟، قالا: لا والله ما علمنا ذلك فقال عمر للشيخ: وما دعاك أن صنعت هذا القبيح؟ قال: أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به وأتكل عليه فقلت يا هذا أتكفيني الرعي والسقي وتعينني على دوابي وأنا أجعل لك نصيباً في امرأتي؟ والآن علمت أنه حرام فلا أفعله. فقال عمر خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها (أي إنها غير زانية) ثم قال للشاب: إياك أن تقرب منها فإنه إن بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر».
وفي هذين المثلين صورة واضحة للحالة التي شرّع لها الإسلام وهي الحالة عينها التي شرّعت لها الموسوية.
هاني بعل
للبحث استئناف

خَرْقاءُ ذاتُ نِيقة

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (23)، 1/7/1941م

(تنبيه: إن كاتب هذا البحث العلمي الجديد بنظرياته ومعلوماته لا يتوخى من درسه غير جلاء الحقيقة في طبيعة المسيحية وطبيعة الإسلام، على ضوء عناصر كل منهما كما هي في ذاتها. وهذا الدرس العظيم الأهمية البعيد عن كل تأثير ديني لا يقصد تفضيل أحد الدينين الجليلين على الآخر، كما قصد رشيد سليم الخوري، رغبة منه في استغلال هياج الغوغاء المتعصب، بل يقصد تبيان تلاحم هذين الدينين مع إظهار علاقة كل منهما بالمرتبة الاجتماعية للبيئة التي نشأ فيها وعلاقة الآيات والتعاليم لكل من الدينين بمرتبة بيئته من الوجهة التاريخية. وقد قال الكاتب في الحلقة (14) من هذه السلسلة (الصفحة 91 أعلاه): «لو أن المسيح ومحمداً تبادلا الرسالة فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في سورية ولما كانت رسالة محمد ابتدأت على الدرجة الأولية التي ابتدأت بها في العُربة». وهذا القول ينفي كل فكرة تفضيل للواحد على الآخر أو للرسالة الواحدة على الأخرى ويجعل أية مقابلة أو مقارنة بين الرسالتين مقصورة على الحالة الاجتماعية والمرتبة الاقتصادية التي نشأت منها كل من الرسالتين وأوجبتا أن يكون نهج الرسالتين مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهما. فالمقابلة ليست بين المسيح ومحمد، بل بين سورية والعُربة من حيث هما وضعان اجتماعيان متباينان اقتضى كل منهما منحىً خاصاً في الدين. أما الرسالتان الدينيتان فغرضهما وجوهرهما واحد كما سبقت الإشارة وكما سيجي. فنحذّر القرّاء من المتعيشين بالتعصب الديني الذين يحاولون إيجاد تأويل فاسد لكل نظرية صحيحة بقصد إثارة الفتنة والاصطياد في الماء العكر!).
أظهرنا في الحلقات الأخيرة المتقدمة من هذه السلسلة، حالة العُربة الاجتماعية ــــ الروحية التي أوجبت اهتمام الرسالة الإسلامية اهتماماً كلياً، أساسياً، جوهرياً بالقضية المادية ووجوب تنظيم شؤونها العملية تنظيماً حقوقياً، قانونياً، يعمل به جميع العرب فيرقي شؤونهم الاجتماعية ويوسع نظرتهم الإنسانية ويقربهم من الحياة الروحية على قدر المستطاع. وهذا لا يعني أن النبي العربي لم يكن مدركاً سمو النظرة الروحية في الشؤون الإنسانية، بل يعني أنه رأى لزوم الاهتمام بالأوليات وأن الرسالة الإسلامية رأت أن تتناول الجماعة الإنسانية المختصة بها من عند درجة مداركها وشؤون حياتها، في حين أنها لم تغفل المطالب الروحية العليا.
وقد توسعنا في تفصيل هذه الحقيقة لكي نضع أمام السوريين درساً علمياً يفيدهم في فهم خصائص دينين يكاد لا يخلو مجمع من مجامعهم من بحثهما، وبحث القضايا الاجتماعية ــــ السياسية التي ولّدها وجودهما متجاورين ومتلاصقين، خصوصاً في سورية التي لا يمكن معالجة قضاياها القومية ــــ السياسية من غير تناول شكل التحزبات الدينية ونظرياتها الأساسية والعارضة. وأهمية هذا البحث تجعلنا نعتقد أن صرف النظر عنه إلى شؤون السياسة الخارجية والوطنية الاعتباطية لا يساعد على حل قضايانا القومية الحقوقية والسياسية والاقتصادية. فرسالة البعث القومي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كرهٍ للأجنبي، بل من رغبة حقيقية في صهر نظرياتنا وعقائدنا المتنافرة وسبكها في وحدة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها.
إن أساسنا القومي يجب أن يكون في وحدتنا الروحية الكلية قبل كل شي. وهذه الوحدة الروحية يجب أن تشمل كل فكرة وكل نظرة في حياتنا. والمفكرون السطحيون فقط يجهلون ضرورة بحث نظراتنا وأفكارنا الدينية بحثاً علمياً، جريئاً، صريحاً لا يُبقي مجالاً للغموض والريب، بقصد الوصول إلى نتيجة كلية تجتمع فيها نفوسنا بكل ما فيها من رغبات ومطامح وآمال.
ولا بد من القول إن ما تقدم وما سيجيء من هذا البحث ليس، مع كل نظرياته الجديدة ودقة معالجته للأمور التي تناولها، سوى شق طريق لأبحاث تالية مستفيضة توسع دائرة فهمنا وترقي إدراكنا لشؤون حياتنا النفسية التي منعنا التخبط فيها عن الاتجاه نحو المرامي القومية الصحيحة ومثلها السامية. فالقصد من هذا البحث ليس مجرد إظهار أن رشيد سليم الخوري ليس سوى واغل عليه عن جهل بخصائصه وفاقة كلية في الشؤون الثقافية العالية، كما يتوهم بعض الناس من العامة ومن طائفة تسمي نفسها «أدباء وقادة الرأي» وتسمم النفسية العامة بآرائها السخيفة وروحيتها السقيمة. فلنعد إلى البحث.
ظهر لنا في ما تقدم الفساد الأول والثاني للمفاضلة بين الإسلام والمسيحية في حارضة رشيد سليم الخوري. فالأول هو ما كان من عدّ الحديث النبوي [وكلام الإمام علي] الإسلام، ومقابلته على آيات الإنجيل وإساءة فهم الحديث. والثاني عدّ الأساس المادي جوهر الإسلام وعدّ خلو الإنجيل من حثّ على الكسب وعلى طلب العلم نقيصة فيه.
والآن نتناول الفساد الثالث لكلام الخوري الذي لا نهتم بتفنيده وبيان فساده إلا لأنه نموذج لكلام متناقل في أوساط واسعة من السوريين إذا لم يوضح لها صحيحه من فاسده ظل عاملاً من عوامل جمودها. وهذا الفساد الثالث هو قوله عن الإنجيل، الذي يقول القرآن إنه كلام منزل، إنه كتاب:
«لا يعلم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح، فلا مجد عنده إلا مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشّر بها هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم».
وقوله أيضاً:
«في حين جعلت المسيحية الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء عملاً بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية: «بع كل أملاكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني» ولعمري لو عمل كل غني بهذه الشريعة لأصبح الناس كلهم مدقعين ولم يبقَ في الأرض من يستطيع أن يجود على فقير بفلس».
لما كنا آلينا على نفسنا أخذ كلام الخوري بالترتيب فإننا نرى، من أجل ترتيب البحث، أن نتناول عبارته الأخيرة المتعلقة بالفقر ودخول السماء قبل تناولنا الفقرة السابقة التي هي النتيجة الكلية، الكاملة، التي توصّل إليها رشيد الخوري من تعاليم الإنجيل كلها.
قال الخوري إن المسيحية جعلت الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء. فهذا القول الجاهل يوازي الاختلاق الشائن الذي يعدّ عند المؤمنين، من الدينين المسيحي والإسلامي، كفرا صريحاً. فالمسيحية لم تجعل قط الفقر شرطاً أساسياً أو شكلياً لدخول السماء. ولا يوجد في الإنجيل كله شريعة توجب الفقر بل لا يوجد الإنجيل «شريعة» على الإطلاق.
فاختلاف الإنجيل عن التوراة والقرآن هو أنه ليس شريعة بل تعاليم فلسفة مناقبية لا تحكم على مخالفيها أحكاماً جزائية ولكنها تقول إن الارتقاء نحو حياة أفضل أو الحياة المثلى لا يكون إلا بها، أي بمعانيها الروحية. وقد رأينا في الحلقة السادسة عشرة من هذه السلسلة (الصفحة 100 أعلاه) أن المسيح لم يسنّ قانوناً جديداً في الزنى، بل علم تعليماً مناقبياً يقود الناس نحو الارتفاع في فهم الحياة، عن مجرد النصوص القانونية للأفعال. فكأن المسيح يقول إن رجم الزانية وحده لا يشفي المجتمع من أمراضه الوبيلة. وهذا تعليم مناقبي وليس شريعة. وكذلك قوله للغني الذي أراد أن يرث الحياة الأبدية: «بع كل مالك وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني»1. فهو تعليم وليس شريعة. وهذا التعليم عينه صار شريعة في الإسلام عملاً بقول القرآن: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزال الله فيه ومن لم يحكم بما أنزال الله فأولئك هم الفاسقون}2. {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}3. {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله …}4 فالرسالة الإسلامية لا تخالف الرسالة المسيحية في هذا الباب، بل توافقها كل الموافقة. ولكن رشيد سليم الخوري الذي يرى المفاضلة بين الأنبياء والتعاليم قائمة على تقدم الزمان وتأخره يرى أنه أحكم من محمد وأحكم من القرآن نفسه لأنه جاء بعده. كما قال عن الإسلام إنه أرقى من الموسوية والمسيحية «حسب سُنَّة النشوء والارتقاء لأنه جاء بعدهما»!
على هذه القاعدة البديعة في فهم نظرية النشوء والارتقاء يكون رشيد الخوري أرقى من محمد ومن القرآن لأنه جاء بعدهما!!.
لنبحث في قول المسيح الذي يثبته القرآن بآيات عديدة ويرفضه رشيد الخوري ويدعي، جرياً على قاعدة الجهّال، أن الإسلام ضده:
إن الحكم على دين بكامله بأخذ أي واحدة من آياته وتجريدها عن موضوعها المتعلقة به وتأويلها أسوأ تأويل ليس جهالة رشيد الخوري وحده، بل جهالة قسم كبير من العامة المسيحية والإسلامية، وجهالة عدد غير قليل من الخاصة الناقصي الثقافة، المعترين بزيادة بعض نواحي اطلاعهم على نواحي اطلاع الأميّين ومن هم في حكمهم.
المسيح لم يقل: «أيها الناس كل من اقتنى ذهباً وفضة وعقاراً فجزاؤه جهنم النار». إنه لم يضع شريعة تحرم الغنى وتبيح الفقر وتوجبه شرطاً لدخول السماء. أما المثل الذي قدمه الخوري فليس هذه طريقة فهمه وتأويله على وجهه الصحيح.
المسيح جاء حاملاً رسالة مناقبية للقضاء على مثالب المجتمع الذي تشبث بقوانين صارت جامدة وأجاز أفراده لأنفسهم الخمول وارتكاب جميع أنواع الموبقات التي تنص الشريعة على كيفية معاقبتها. فهو كان مجاهداً وأتباعه يجب أن يكونوا مجاهدين. بأنفسهم وأموالهم. وفي وقت الجهاد يُطلب من أهل الغاية أن يضحوا التضحية العظمى. فالغني الذي جاء يطلب أن يرث الحياة الأبدية في بدء الجهاد وهو وقت يوجب التجرد الكلي. فطلب منه المسيح ما يُطلب في مثل هذا الوقت فصعب الأمر عليه فلم يكن له حظ أن يدخل السماء لأنه رفض الجهاد بنفسه وماله من أجلها، ومن ثم إنه رفض وضع كل قوته لتحقيق الرسالة.
وقد وافق القرآن هذا التعليم المسيحي كل الموافقة قوله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}1 ، وبقوله: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}2. فهذه الآية القرآنية تفضّل الذين أنفقوا وجاهوا قبل مجي النصر على الذين أنفقوا وجاهدوا بعد حلوله حتى ولو كانوا مساوين للأولين في مقدار النفقة. وقال القرآن أيضاً: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون}3 . وحكم هذه الآية واضح وهو الجهاد بالنفوس والأموال وليس ببعضها. وقال أيضاً: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً}4. ومع أننا نلحظ ظهور العامل السياسي ــــ النفسي في هذه الآية فأمر الجهاد واضح لا غموض فيه وهو الجهاد بالنفس والمال في سبيل السماء وليس في سبيل الكسب كما يفهم رشيد الخوري الذي عدّ سعيه للكسب بالتجارة في البرازيل «جهاداً». وقد شدد القرآن النكير على الأغنياء الذين يحتالون ليقعدوا عن الجهاد بقوله: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}5.
وموافقة القرآن للإنجيل في هذه الأحكام هي موافقة كلية لا جزئية. فقد ورد في الإنجيل في وعظ المسيح للفريسيين هاتان الآيتان: «مع ذلك فقد بقي لكم أن تتصدقوا مما في أيديكم فيكون كل شي نقياً لكم. لكن الويل لكم أيها الفريسيون فإنكم تعشرون النعنع والسذاب وسائر البقول وتتعدون العدل ومحبة الله وكان ينبغي أن تعملوا هذه أولاً ولا تتركوا تلك»6. فالمسيح لم يقل هنا: «أن تتصدقوا بكل ما في أيديكم» ولو كانت شريعته جعل الفقر شرطاً لدخول السماء، كما يقول صاحب الحارضة، لكن وجب أن يقوله. ومن آيات المسيح التي تدل على جهل رشيد الخوري التعاليم المسيحية المثل التالي: «فقال (المسيح) رجل شريف الجنس ذهب إلى بلد بعيد ليأخذ لنفسه ملكاً ويعود فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء (وزنات) وقال لهم تاجروا حتى آتي. وكان أهل مدينته يبغضونه فأنفذوا في أثره رسلاً قائلين لا نريد أن يملك علينا هذا. فلما أخذ الملك ورجع أمر أن يدعى عبيده الذين أعطاهم الفضة ليعلم ما بلغت تجارة كل منهم. فأقبل الأول وقال: يا سيد إن مناك قد ربح عشرة أمناء. فقال له: أحسنت أيها العبد الصالح قد وجدت أميناً في القليل فليكن لك السلطان على عشر مدن. ثم جاء الثاني وقال: يا سيد إن مناك قد كسب خمسة أمناء. فقال لهذا: وأنت كن على خمس مدن. وجاء الآخر فقال: هوذا مناك الذي كان عندي موضوعاً في منديل لأني خفت منك لكونك رجلاً قاسياً تأخذ ما لم تضع وتحصد ما لم تزرع فقال له: من فمك أدينك أيها العبد الشرير قد علمت أني رجل قاسٍ آخذ ما لم أضع وأحصد ما لم أزرع. فلماذا لم تجعل فضتي على مائدة الصرف حتى إذا قدمت أستوفيها مع ربي. ثم قال للحاضرين خذوا منه ألمنا وأعطوه للذي معه العشرة الأمناء. فقالوا له يا سيد إن معه عشرة أمناء. إني أقول لكم إن كل من له يعطى فيزداد ومن لي له يؤخذ منه ما هو له»1. فلو كانت «شريعة» المسيح تقول بشرطية الفقر لدخول السماء، كما يقول الخوري في معرض تدجيله ونفاقه، لكان وجب أن تكون الآيات عكس ما هي فيأخذ العبد الكسول الذي لم يتاجر بالمال السلطان على العشر مدن والعشرة الأمناء ويدخل ملكوت السموات. ولكان وجب أن يقول المسيح: «إني أقول لكم إن كل من له يذهب إلى جهنم وكل من ليس له يكون له الجزاء الحسن ويدخل ملكوت السموات».
ولكن رشيد الخوري يرى قليلاً حتى تشويه الحقائق الدينية وإثارة الفتن الدينية في سبيل «الكسب غير المحدود» الذي يدّعي، على جهل منه، أنه جوهر الديانة الإسلامية. هذا الرجل الذي شوّه التعاليم الدينية ووجد بلهاء يصفقون له باسم الدين، يريد أيضاً أن يشوّه التعاليم السورية القومية من أجل منافع وعده بها بعض المتعصبّة. ولكن ساء فأل المنافقين.
هاني بعل
للبحث استئناف

ليس من علم كمن لا يعلم

(الزوبعة) بوينُس آيرس، العدد (24)، 15/7/1941م

قلنا في الحلقة السابقة (الصفحة 118 أعلاه): «إن المسيح جاء حاملاً رسالة مناقبية للقضاء على مثالب المجتمع الذي تشبث بقوانين صارت جامدة وأجاز أفراده لأنفسهم الخمول وارتكاب جميع أنواع الموبقات التي تنص الشريعة على كيفية معاقبتها». وهذا أيضاً شأن محمد. إلا أن الفرق بين المسيح ومحمد أن المسيح لم يكن محتاجاً لأن تكون رسالته تشريعية لأن المجتمع الذي نشأ فيه كان ذا شرائع سبكتها الموسوية في شكل إلهي. وإن محمداً وجد أشد ما تحتاج إليه جماعات بيئته هو التشريع فأدى هذه الرسالة وأضاف إليها تعاليم مناقبية من النوع المسيحي عينه، إلا أنه تناول بها أيضاً أموراً كثيرةً مختصة بأهل بيئته فضلاً عن الأمور العامة.
وقد جدنا الكلام الإلهي في القرآن يوافق كل الموافقة تعليم المسيح المناقبي الذي جاء جاهل يدّعي العلم يقول إنه يخالفه. بل إننا حين التمعن في النصوص نجد أن القرآن كان أشد تأكيداً من الإنجيل بوجوب الاستغناء عن كل مال وعقار في سبيل السماء. في الإنجيل كله لا يوجد حكم كحكم الآية القرآنية: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}1. ولا وعيد الآية: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}2. فالمسيح لم ينذر الأغنياء ومفضلي أموالهم على محبة الله أتباع المسيح هذا الإنذار الشديد، وقوله لتلاميذه، مستخرجاً لهم العبرة من رفض الغني بيع أملاكه وتوزيعها على الفقراء: «ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله ، إنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله»3 ليس حكماً عليهم بالرفض والهلاك من أجل غناهم، بل تعييناً لحقيقة حالهم التي اختاروها لأنفسهم، إذ فضلوا أموالهم على عمل مشيئة الله . وهذا التعليم ليس ضد الغني عينه، كما أوهم رشيد الخوري جهله، بل ضد جعل المال معبود الإنسان من دون الله أو الفضائل العليا. وإذا تابع الدارس ذيول هذا الحادث والتعليم المسيحي المستخرج منه ظهر له عظم تدجيل رشيد الخوري بادعائه فهم تعليم المسيح والشريعة الإسلامية وتعليم محمد. فالآيات التالية هذا نصها: «فقال السامعون فمن يستطيع إذاً أن يخلص. فقال ما لا يستطاع عند الناس مستطاع عند الله . فقال بطرس هو ذا نحن قد تركنا كل شي وتبعناك. فقال لهم الحق أقول لكم إنه ما من أحد ترك بيتاً أو والدين أو أخوة أو امرأة أو بنين لأجل ملكوت الله ، إلا ينال في هذا الزمان أضعافاً كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية»1. فإذاً القصد الواضح من نص التعليم أن يثاب الإنسان في هذه الدنيا أيضاً فضلاً عن ثواب الآخرة فيزداد غناه الدنيوي أيضاً إذا عمل بهذا التعليم فكيف يكون هذا القول موجباً للفقر، كما يدّجل رشيد سليم الخوري؟
ومن مقابلة آيات القرآن، المثبتة في الحلقة السابقة وهذه الحلقة، على هذه الآيات الإنجيلية يتضح أن المطابقة بين التعليمين المسيحي والإسلامي هي كلية. وفي بعض الآيات المطابقة ليست أساسية فقط بل شكلية أيضاً كما في تعداد الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، الذي يكاد يكون حرفياً في الإنجيل والقرآن.
ننتقل إلى أخطر الأقوال التي فاه بها رشيد الخوري في حارضته الهجائية التي لم يرمِ من ورائها إلى غير إثارة الفتنة الدينية واستدرار جيوب الذين لا يزال يأخذهم هوس التعصب الديني. ونحن لا يهمنا من تناول هذا القول الدفاع عن الدين المسيحي أو إثبات صحته وصحيحه، لسنا مبشري أديان. وإذا كان رشيد الخوري أراد أن يكون مبشراً دينياً لقضاء لبانة في نفسه، فذلك شأنه هو الذي لا ندخل فيه، ولا في شأن الذين أغروه بركوب هذا المركب الخشن.
نحن نسوق هذا الدرس من أجل محاربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني والاستهزاء بالتعاليم على الإطلاق، سواء أكانت دينية أم غير دينية. ومن أجل إيضاح الحقائق التي تساعد على التخفيف من غلواء التعصب الديني المبني على تشويه هذه الحقائق، ونشوء اعتقادات في صددها لا يمكن أن يذهب التعصب الأعمى بدون ذهابها.
أثبتنا في ما تقدم فقرة من حارضة رشيد الخوري جمعت النتيجة الكلية الكاملة لما سمّاه صاحب الحارضة «بحثاً دينياً اسماً واجتماعياً فعلاً» في ما يتعلق بالدين المسيحي أو الإنجيل. وهي الفقرة القائلة إن الإنجيل كتاب «لا يعلّم غير الزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون» وإنه «لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم». وقلنا إننا سنعود إليها بعد بحث قوله إن المسيحية «توجب الفقر شرطاً لدخول السماء» فلنبحث في هذا الكلام.
إن هذا القول الذي عنيناه في الحلقة الرابعة عشرة (الصفحة 87ــــ 92 أعلاه) ونجعله هنا شاهداً على قولنا هناك إنه سفسطة سهلة الشيوع عند العامة وعند الخاصة الناقصة الثقافة، وإيضاحنا أن سبب هذه السهولة هو كمال سطحية هذه السفسطة وإغفالها الحقائق الاجتماعية والتاريخية. وهو الإغفال الذي رأينا أوجه في تفضيل الدين الإسلامي على الدين المسيحي لسبب أن محمداً «أشاد بذكر العلم وفضل العلماء وأنه لا يوجد في الإنجيل أي واحدة تذكر العلم بخير أو بشر».
لا يذكر صاحب الحارضة النصوص الإنجيلية التي استند إليها وحللها وحقق فيها، ليخرج بهذه السفسطة الباهرة في «بحثه الاجتماعي فعلاً» القائلة إن الإنجيل كتاب لا يعلّم غير الدروشة والزهد وحبس العقل والاستسلام للعبودية والصبر على الظلم. فهذا الكلام المرسل جزافاً على عواهنه من غير ضابط من النصوص، ولا شواهد كاملة من التعاليم التي يتناولها، هو آخر بدعة من بدع الواغلين على العلم في ما يمكن أن يحتمل أن يسمى بحثاً علمياً «اجتماعياً»، مهما يكن من شأن هذا النعت غير المضبوط. فهؤلاء الشياطين أو السعادين لا يرون ضرورة لبحث التعاليم أو المبادىء أو الأقوال التي يعطون حكمهم عليها بصورة نهائية وجازمة. فعقلية عظيمة السخافة، كعقلية رشيد الخوري، لا تجد حاجة لدرس نصوص الإسلام ونصوص المسيحية حين النظر فيهما والبتّ في طبيعة كل منهما وخصائصه، وإظهار كيفية توصلها إلى النتيجة الأخيرة التي تصل إليها. إن هذه العقلية السفسطائية التي لا تعلو عن عقلية الأميّين ترى أن التعاليم شائعة بين الناس ومعروفة وأن إقرار النتيجة شي بديهي لا يستدعي إعادة نظر، بل يكفي تقديم أي واحدة مفصولة عن موضوعها كآية طلب المسيح من الغني أن يبيع أملاكه ويوزعها على الفقراء، ليمتحن صدق إيمانه واتخاذها شاهداً يغني عن الباقي في عرف هذه العقلية الفقيرة الثقافة الطامعة بالخلود والمال. وقد رأينا في الحلقة السابقة وما تقدم من هذه الحلقة مقدار إساءة فهم الآية وموضوعها وإساءة الاستشهاد با.
إن التعاليم المسيحية شائعة وكذلك التعاليم الإسلامية. ولكن شيوع هذه التعاليم لا يعني دائماً أن الشائعة عندهم درسوها ومحصوها وفهمومها فهماً كلياً أو مستوفى، بل قد يعني، وهو الأصح، أن من الجهالة الاستناد إلى هذا الشيوع غير المضبوط، خصوصاً في مجتمع لا يزال فيه بقية كبيرة من انحطاط الثقافة ونقص العلم اللذين هما من نتائج فقده رابطته وسيادته القوميتين. ولولا شيوع هذه التعاليم شيوعاً يولّد كثيراً من الأغاليط في محيط الثقافة المنحطة والعلم الناقص، لما وجدنا بنا حاجة لتناول هذه السفسطة ودرسها وتحليلها بصورة جدية، بل لكنّا فضلنا خوض الموضوع من نقطة ابتدائية غير هذه النقطة، ومن وجه غير الوجه الذي تحملنا عليه هذه السفسطة.
وقد رأينا في ما تقدم مقدار ما يعرف أو ما يجهل رشيد الخوري من الإسلام وبعض مقدار ما يعرف أو ما يجهل من المسيحية، فلنرَ مقداراً آخر من علمه ومن جهله مبتدئين بقوله إن الإنجيل «لا يعلّم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد».
من أين استمد الخوري هذا الحكم؟ من خبط العامة في التعاليم ذات الصبغة الفلسفية في المناقب. من منّا لم يسمع كثيراً من العامة والخاصة الناقصة الثقافة تتحدث عن المسيحية والإسلام بصورة بعيدة عن الفهم؟ من منّا لم تطرق أذنه مثل هذه العبارة الحقيرة «تقبر الإنجيل إيش بيعلم غير الكسل. شو بيستفيد الإنسان من قول المسيح: «لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون»، «ولا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟».
أليس من هذا القبيل تماماً ما يقوله رشيد الخوري في حارضته مدعياً أن الإنجيل «لا يعلم غير الدروشة والزهد». بلى. بلا زيادة ولا نقصان. ولكن ما أبعد هذه النظرة الانحطاطية عن مقصود هذا التعليم المسيحي!
المسيح لم يقل هذين القولين اللذين تستشهد بهما العامة المبلبلة والخاصة المستمدة ثقافتها من الأفكار الشائعة، الخطرة، وحدهما كتعليم كامل تام في ذاته، بل قالهما في عرض موعظة كاملة تعالج حالة عامة وتتجه نحو نتيجة كلية هي محاربة الإغراق في المادية الفردية والانحطاط إلى أسفل دركاتها، حيث يصبح قلب الإنسان مع كنزه المادي المفضل عنده على جميع الفضائل العليا المنسوبة إلى «مشيئة الله »، والانتصار على الأنانية الفردية لقيام مجتمع أفضل. فالمسيح لم يقل أي واحدة ليعبّر بها عما أراد أن يرسخه في الأذهان، بل قال سلسلة عبارات في موعظته على الجبل كلها مرتبطة بهذا المعنى الواحد المتعلق بوجوب تفضيل محبة المناقب والفضائل الباقية على محبة المال، فهو لم يكد يتم عبارته الضائلة: «فلا تطلبوا ما تأكلون أو ما تشربون ولا تقلقوا» حتى أردفها بآيتين ثانيتين اتصلتا بها مباشرة وهما: «لأن هذا كله تتطلبه أمم العالم وأبوكم (الله ) يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا. بل اطلبوا ملكوت الله وهذا كله يزاد لكم»1.
فهل وقف رشيد الخوري ومن حذا حذوه عند الجزء الثاني من الآية الأخيرة المذكورة آنفاً وتأمل معناها ووجد أنها لا تعني شيئاً غير الدروشة والزهد والفقر؟، هل وقفوا عند هذه الآية المذكورة آخراً وتمعنوا في معناها الذي جمع المقصود من الآيات السابقة والغرض الكامل الذي رمى إليه المسيح منها ووجدوا أن هذا الغرض هو الدروشة والزهد والفقر، لا أكثر ولا أقل؟
شتان بين غرض التعليم وما فهمه ويفهمه رجل يتكلم في الدين ولا يعرف ما هو الدين ويدّعي العلم وهو ليس سوى خرقاء ذات نيقة.
إن درس موعظة المسيح والآيات المتعلقة بموضوع الغنى يوصل إلى نتيجة واحدة هي: أنه إذا اتجه أبناء المجتمع الواحد نحو طلب حالة السعاده التي تولّدها الفضائل السامية فإن المجتمع يخسر الأنانية الفردية المنحطة، القتالة، ولكنه لا يخسر أسباب العيش والرفاه، لأن التعاون في المجمع يولد المحبة والمحبة تزيد التعاون، ومن هذا التفاعل بين المحبة والتعاضد يتولد فلاح المجتمع. فأي عقل غير سخيف يقول إن فلاح المجتمع يعني الدروشة والزهد والفقر؟
وهل يقول الإسلام بغير هذه النتيجة؟ أتعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية هذا التعليم؟، كلا، بل هي تؤيده وتتجه معه في اتجاه واحد. ولا يحاول نفي ذلك غير جاهل مغرور يدّعي أنه أخبر بالإسلام من القرآن ومن محمد نفسه.
انظر كيف يعلم القرآن هذا التعليم الإنجيلي عينه: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}1. فهذه الآية توافق كل الموافقة آيات الإنجيل في تعسير دخول السماء على الذين يفضلون حرث الدنيا على حرث الآخرة. وإليك أي أخرى: {مَثَلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}2. وأخرى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}3، وغيرها: {زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسَوَّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}4، وغيرها: {فما أوتيتم من شي فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}5.
ألا يرى رشيد سليم الخوري، الواضع على عينيه نظارتين ذهبيتي الحتار والوهج كنظارتي إيليا أبي ماضي، أن الإسلام يشترك مع المسيحية في تعليم «الدروشة والزهد والفقر والاستسلام لما وراء المنظور والخضوع الأعمى للتعاليم السماوية؟».
أليس هكذا يفهم شكيب أرسلان الإسلام حتى قال عن رشيد الخوري إنه يفوق كثيراً من أقحاح المسلمين المدافعين عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض؟
هاني بعل
للبحث استئناف

تأويل الجاهلين

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (25)، 1/8/1941م

رأينا في الحلقة السابقة مقدار فساد كلام رشيد الخوري في تأويله الجاهل لكلام المسيح، الحاضّ على ترك الأنانية القاتلة لروح المحبة المانعة التعاون في المجتمع (الصفحة 125 أعلاه). وفي هذه الحلقة سنرى تأويله الجاهل لكلام المسيح في ترك المخاصمة ووجوب التساهل والمغفرة. وهذا التأويل الجاهل هو قوله: «لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم».
إذا كان رشيد الخوري قد حاول أن يدعم تأويله السابق في «الدروشة والزهد» بالتعلق بعبارة واحدة من عبارات المسيح فهو لم يجد حاجة لتأييد تأويله هذا الأخير بآية أو بجمل من الإنجيل. ومما لا شك فيه أنه يستخرج هذا التأويل الفاسد من آيات إنجيلية شائعة عند العامة شيوعاً غير مضبوط، هي من موعظة المسيح على جبل الزيتون وهذه هي: «أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخلِّ له رداءك أيضاً ومن سخّرك ميلاً فامش معه اثنين. ومن سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه… أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلّوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم»1.
رشيد الخوري وأمثاله من قليلي العلم وفقراء الأدب يأخذون هذه الآيات ويؤولونها على قدر عقليتهم، ويقولون إن تأويلهم هذا تعليم المسيح. وتأويلهم هو، كما رأينا من كلام الخوري، أن القصد من هذا التعليم هو جعل الإنسان مستسلماً للخنوع والعبودية والخسف والهوان والجلد بالسياط. فلنرَ هل يصح هذا التأويل؟
قلنا في ما تقدم إن المسيح لم يضع شريعة كما يتوهم رشيد الخوري الذي لا يعرف الفرق بين تعليم العقيدة واشتراع القوانين، ولذلك لا يجوز قط أن تحمل الآيات المذكورة على محمل الحكم القانوني، فهي تعليم فيه تشديد في معالجة حالة اجتماعية ولّدها جمود الشرع ونقص التعاليم المناقبية في الدين. وهذا التعليم لا يقصد قسمة الناس إلى ظالمين ومظلومين كما يتوهم أمثال رشيد الخوري فتكون هنالك جماعة يحق لأفرادها أن يصفعوا كل من ليس بفئتهم على وجهه، وتكون هنالك جماعة يتوجب على أفرادها أن يحولّوا خدودهم الأخرى لضاربيهم، بل هو يقصد نفي الخصومة والضرب والظلم من المجتمع. والآيات المذكورة لا يمكن أخذها وحدها، لأنها لم تُقل في معرض الإطلاق، بل في معرض موضوع متعلقة به ومرتبطة به بآيات أخرى معها في وقت واحد:
بعد أن حثّ المسيح تلاميذه على ابتغاء البر وسلامة القلب مهما تعرضوا للملام والاضطهاد، انتقل إلى تعليم فلسفته الاجتماعية التي لا تقف عند حدود الشرع. فالشرع الجزائي وظيفته سلبية أكثر مما هي إيجابية. فالقانون يعاقب على الجرم ولكنه لا يعيّن الفضائل وهو يضع الحد ولكنه لا يشق طريق الارتقاء. إنه يحفظ نظام المجتمع ولكن ترقية نفسيته تبقى من مهام التعاليم المناقبية والنظرات الفلسفية في قواعد الحياة الاجتماعية ومُثُلها العليا. فهذه التعاليم والنظرات الفلسفية لا تكتفي بحالة الإنصاف الأولى التي أوجدتها الشرائع والقوانين سواء أكان دينية أم مدنية، وهي حالة تأمين حصول الطريقة العملية (Modus Vivebdi) لتسيير شؤون المجتمع وحفظ نظامه. بل ترمي إلى تعديل شؤون المجتمع وتغيير نظامه على ما ينطبق على مثلها العليا وما تراه أفضل لترقية الحياة الإنسانية الاجتماعية. وتظهر الحاجة إلى هذه التعاليم والنظرات الفلسفية في المجتمعات التي اجتازت طور التشريع الابتدائي وحازت الطريق العملية الصالحة لتسيير شؤونها الحيوية. وهذه هي المجتمعات الصالحة لنشوء التعاليم الفلسفية وسورية كانت بلا تمدن باذخ عرفت التشريع المدني ثم جاءها اليهود الذين قالوا بمذهب جديد في الدين هو مذهب الإله الذي يرى ولا يُرى، خالق السموات والأرض وعالم الغيب وجعلوه مصدر الشرع فصار الشرع جامداً غير قابل التغيير، مهما تغيّر الزمان وتقلبت الظروف والأحوال، وصارت النظرة إلى الحياة مؤسسة مناقبياً وفلسفياً، على الشرع. واكتفى الناس، الذين آمنوا بالدين الجديد، بالأساس المناقبي المستمد من الشرع.
بجمود الشرع، عن طريق الدين، جمدت الفلسفة المناقبية أيضاً وبَطُلَ مبدأ الفيلسوف السوري الكبير زينون القائل بأن الفكر أو العقل هو جوهر الحياة الإنسانية. فحدث في المجتمع السوري تصادم عنيف بين النفسية السورية والشرع الموسوي الذي أخذ يقوى على عامل العقل، بسبب قوة فكرة الله التي استند إليها والتي أخذت تتغلب على فكرة آلهة الأساطير القديمة والأصنام. ولم يعد في الإمكان التأثير على المجتمع إلا عن طريق فكرة الله، لأن هذه الفكرة أضعفت منزلة الحكمة البشرية وقوة العقل الإنساني تجاه حكمة الله وتدبيره. وهذا هو السبب في اتخاذ التعاليم المناقبية المسيحية الفكرة الدينية الجديدة أساساً لها. فظهر المسيح بمظهر الموعود به من الله ليكون به الخلاص. وعلى هذا الاعتقاد الديني استند المسيح ليؤدي رسالته المناقبية التي أهم ما فيها، بصرف النظر عن أهمية تعاليمها، أنها أعادت النظرة السورية إلى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى التاريخ، وأن ميزة الإنسان الأساسية هي الفكر، وأنها كانت انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية اليهودية القائلة بتحديد الحياة الإنسانية وفاقاً للشرع الموسوي.
قلنا إن المسيح بعد أن شدد روحية تلاميذه انتقل إلى تعليم فلسفته المناقبية الاجتماعية. وقد بدأ المسيح تعاليمه بمهاجمة الوقوف عند حدود الشرع والاكتفاء بالفرائض. قال: «قد سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل فإن من قتل يستوجب الدينونة. أما أنا فأقول لكم إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة ومن قال لأخيه رَقا يستوجب حكم المحفل. ومن قال يا أحمق يستوجب نار جهنم»1، فهذا التشديد بوجوب ترك الجمود المحدد بالشرع ليس تشريعاً جديداً ينص على معاقبة الذي يغضب على أخيه، كما نص الشرع الموسوي المأخوذ عن الشرع الكنعاني على معاقبة القاتل بالقتل، بل هو تعليم يقول بالحكم المناقبي المستمد من النظرة الفلسفية الجديدة. ويثبت أنه تعليم ليس فقط في أنه لم يعين العقوبات، بل في الآيات التابعة، وهي: «فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكّرت أن لأخيك عليك شيئاً فدع قربانك هناك أمام المذبح وامضِ أولاً فصالح أخاك وحينئذٍ ائتِ وقدّم قربانك»2، ثم الآية: «قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تزن. أما أنا فأقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها فقد زنى با في قلبه»3، ثم الآيات: قَد قيل من طلق امرأته فليدفع إليها كتاب طلاق. أما أنا فأقول لكم من طلق امرأته إلا لعلة زنى فقد جعلها زانية ومن تزوج مطلقة فقد زنى»4. وفي تعليم الآيات الأخيرة قواعد مناقبية للترفع عن الشهوات الحيوانية والاتجاه نحو المثال الأعلى التمدني نحو الحب وتفاهم الحبيبين للاشتراك في حياة نفسية راقية، يكون الحب فيها حافزاً على الأعمال الكبيرة والإنتاج العمراني والثقافي بدلاً من التلاشي في المغامرات الشهوانية. والإسلام الذي نشأ في إقليم حدد الحياة البشرية تحديداً شديداً وأحرجها، حتى أصبحت الشهوات الحادة المنصرف الوحيد لقوى الناس، فضل أن يتزوج الرجل امرأة واحدة في حين أباح تعدد الزوجات نظراً لمقتضيات البيئة، يقول القرآن: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}5. وقد تابع المسيح إعطاء القواعد المناقبية فقال: «قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تحنث، بل أوفِ للرب بأقسامك. أما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها عرش الله ولا بالأرض فإنها موطىء قدميه. ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير»1. وهذا التعليم سامٍ جداً يرفع احترام الناس أنفسهم وأقوالهم حتى يصيروا يعنون ما يقولون دائماً، فيكون كلامهم موثوقاً به من غير حاجة إلى حلف خاص يدل على الشك بصدق رواياتهم وأقوالهم الأخرى. وتابع تعليمه بعدم تجميد الفضائل النفسية بالاكتفاء بحد القانون فقال: «قد سمعتم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخلِّ له رداءك أيضاً ومن سخّرك ميلاً فامشِ معه اثنين. ومن سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه»2.
هذه القاعدة المناقبية السامية ليس تأويلها الحسن ما أوّله رشيد الخوري من غير استناد إلى كلام المسيح. بل تأويلها الوحيد الصحيح الذي لا يقبل الجدل هو أن المسيح قال بوجوب التساهل في الحقوق الفردية من أجل خير المجتمع. فقوله: «لا تقاوموا الشر» لا يعني عدم مقاومة الذين يفسدون المجتمع، بل يعني عدم الاستسلام لعوامل الفساد التي منها تفضيل حق الفرد وخيره على حق المجتمع وخيره. فالشرير هو الذي يريد أن يقودك إلى الشر بدفعك إلى مقاومته بسلاحه وهو الشر واستعمال هذا السلاح لا يخفف الشر في المجتمع، بل يزيده، لأن الانتقام يكون بحدة وبلا قياس. فالغبن لا بدواقع وبالغين ازدياد الأحقاد والضغائن والعداوة وتفكك المجتمع وفساده. فمقاومة الشر الحادث بين إنسان وابن مجتمعه تكون، حسب قاعدة المسيح المناقبية، بالتساهل في الحقوق الفردية الذي ينتهي في الأخير إلى نفي الشر، لأنه متى تعلم كل إنسان أن يستاهل من أجل الخير العام لم يعد هناك من يريد الظلم، فينتفي الظلم بالمرة أو يقلّ كثيراً حتى لا يُشعر به، وإذا انتفى الظلم فكيف يكون بانتفائه حصول الخنوع والخسف والهوان؟
إن رشيد الخوري الجاهل تعاليم الدينين المسيحي والإسلامي يظن أن الإسلام يخالف هذا التعليم المسيحي، وبناءً على هذا الظن الآثم أخذ يصرح باختلاف الإسلام والمسيحية في هذا الصدد. ولكن الحقيقة هي أن الإسلام يعلّم هذا التعليم عينه في القرآن والحديث، فانظر ما يقول القرآن: {ولا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك بينه عداوة كأنه ولي حميم}3. {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}4. {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً}5. وأقوى هذه الآيات في هذا الاتجاه هي المذكورة في الأول من سورة السجدة [فُصّلت]. وقد اكتفت الرسالة الإسلامية بهذا المقدار من موافقة التعليم المسيحي مراعاة لحالة البيئة ولذلك كانت هذه الآيات مطلقة من غير تعيين لكيفية التطبيق بالأمثال، كما في الرسالة المسيحية. فالبيئة العربية كانت، كما بيّنا في ما تقدم من حلقات هذا البحث، أشد حاجة إلى وضع حد للفوضى وإقامة حدود الشرع التي تمنع الانتقام الجامح الذي كاد يقع فيه النبي نفسه، منها إلى الحياة الثقافية العليا. فقد روي عن محمد أنه «لما رأى حمزة وقد مُثّل به» قال: «والله لئن أظفرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين مكانك» (ذكره الإمام البيضاوي1 في شرحه سورة النحل). ثم إن النبي كفّر عن يمينه بنزول الآية: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} . ومع أن هذه الآية مشرّبة روحاً مسيحيةً في القسم الأخير منها وهو قوله: {لئن صبرتم لهو خير للصابرين}2 فإن القسم الأول مجانس للشرع الموسوي الذي هو بداءة تنظيم المجتمع. وقد كانت موجبات البيئة لتساهل الرسالة قوية أحياناً خصوصاً بعد الاتجاه نحو جمع كلمة المسلمين على قتال الذين لا يؤمنون إيمانهم ونصرة الدين بالقوة، كالتساهل بتجويز ضرب النساء لحملهن على إطاعة رجالهن. فقد وردت في سورة النساء الآية: {الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (في زواجهن) فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإذا أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً}3. فلهذه الآية علاقة بحكاية حال وهي أن سعد بن الربيع، أحد نقباء الأنصار، نشزت (عصت) عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى النبي فشكا فقال محمد «لتقتص منه». ثم كان أن الآية نزلت فقال النبي: «أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير». وفي هذا القول تدبير سياسي حكيم لمعالجة حالة معالجة ما كان يجب أن تولد صدعاً في صفوف المسلمين.
مع كل هذا التساهل الشرعي الذي أبدته الرسالة المحمدية تجاه مقتضيات حالة البيئة، فإن النبي كان في بعض كلامه الذي حدّث به حديثاً لا إلزام فيه أعلى مطلباً للناس عامة وأبعد مرمى، مستفيداً من أن كلامه ليس شرعاً حتمياً، بل إرشاد يحثّ المؤمن على التمسك به من غير عنت ولا إكراه. فهو في الحديث الذي يخرج به من خصوصيات البيئة وضروراتها إلى عالم الإنسانية الواسع الذي يتناول بيئات التمدن أيضاً يجاري المسيح في تعاليمه المناقبية مجاراة لا تترك زيادة لمستزيد.
في الحديث الذي يتناول تعاليم عمومية، كما في الآيات التي يلاحظ أن عوامل البيئة قيدتها بعض التقييد، تظهر لطافة نفس النبي العربي السورية الأصل، فإذا جوهرها وجوهر نفس المسيح واحد لأنهما من أرومة واحدة في الأصل، قبل أن صارت القبائل الكنعانية مستعربة وهي القبائل العدنانية الكنعانية الأصل التي منها النبي محمد.
لينظر القارى كيف يتّحد التعليم المحمدي بالتعليم اليسوعي فإذا هما تعليم واحد وليسا تعليمين. وإذا كانت البيئة العربية الصحراوية وأساليب معيشتها قد اقتضت نظراً خاصاً بها فإن المرمى الأخير المناقبي للرسالة الإسلامية لم يقصّر قيد شعرة عن مرمى الرسالة المسيحية. قال محمد في حديث له : «أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر. وأن أعفو عمّن ظلمني وأعطي من حرمني وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً ونظري عبراً»، فإن العفو عن الظلم هو موازٍ لتحويل الخد الآخر لمن ضربك، وإعطاء من يحرم ووصل من يقطع موازيان لقول المسيح من سخّرك ميلاً فامشِ معه اثنين ومن طلب مالك فلا تمنعه.
إذن لا خلاف في جوهر الرسالة الإسلامية وجوهر الرسالة المسيحية. ولا مغايرة إلا فيما اقتضاه اختلاف البيئة، لا ما اقتضاه قصد كل من الرسالتين، لأنه لا اختلاف في أن قصدهما واحد.
فإذا كانت تعاليم المسيح تعلّم الخنوع والاستسلام والهوان والصبر على الظلم، فتعاليم محمد وآيات القرآن توافقها على ذلك كل الموافقة. ولا وجه مطلقاً يجيز القول الذي قاله في هذا الصدد رشيد الخوري، في محاولة عقيمة للانتصار لدين ضد دين آخر بتشويه تعاليم الدينين ونسبة أمور إليهما لا مستند صحيح لنسبتها إليهما، ولعن الله من أراد إيقاظ الفتنة.
هاني بعل
للبحث استئناف

ضعف الإدراك من نقص العقل

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (26)، 15/8/1941م

رأينا في ما تقدم من هذا البحث أن مرمى التعاليم المناقبية المسيحية أبعد كثيراً من الحد الذي يبلغه التفكير والتعليم الانحطاطيان العاجزان عن إدراك قنن الفضائل، ولذلك كان من الصعب على النفوس القانعة بالتفكير والتعليم المذكورين أن تحاول إدراكه. وهذه الصعوبة لم يجدها صاحب الحارضة في تتبعه تعاليم المسيح فقط، بل وجدها في تتبعه تعاليم محمد أيضاً. ولذلك أغفل إغفالاً كلياً ذكر التعاليم الإسلامية التي تشترك مع التعاليم المسيحية وتكوّن قنة الروحية الإسلامية، فشواهده من الحديث النبوي كانت قليلة وضعيفة. والأرجح أنه ليس له اطّلاع في هذا الباب الواسع. أما القرآن فقد أغفله بالمرة والأرجح أنه في هذا الباب أحد الذين قال القرآن فيهم: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}1.
ولعل ما يهول رشيد الخوري وأمثاله، الذين فسدت نشأتهم واختطلت مثالبهم بمناقبهم فإذا هي شي واحد، من التعاليم المسيحية تشديد المسيح في وجوب كبح جماح الشهوات الحيوانية كما في معالجته حالة الطلاق والزنى. فالمسيح أراد أن يُظهر للمجتمع وخامة عاقبة الظلم الذي يأتيه الأفراد والفساد الذي يقترفونه، متسترين بحكم الشريعة القائلة إنه لا جُناح على من يطلّق امرأته بشرط أن يعطيها كتاب الطلاق. فصار الرجال المسترسلون إلى الشهوات وغير العابئين بالمضار التي تجلبها أعمالهم على المجتمع يستهونون ظلم النساء وتطليقهن لأي سبب من الأسباب البسيطة، فتتألم النساء ويحدث من وراء ذلك تفشي الفحش وتراخي الروابط العائلية التي هي أساس المجتمع. فعلّم المسيح بوجوب ترك تطليق النساء إلا العلة الزنى. وشرح تعليمه قائلاً: «من طلق امرأته إلا لعلة الزنى فقد جعلها زانية»2 ، أي أنه يرميها في التجربة ويحملها على الزنى. وقد لا يكون سبب تطليقها سوى حجة ضعيفة في الظاهر ورغبة باطنة في تزوج امرأة أخرى استزادة في التمتع الجسدي، من غير نظر في العواقب الاجتماعية وزيادة في استهلاك القوى الحيوية التي كان الأفضل أن تصرف في الشؤون العمرانية والثقافية.
إن هذا التعليم هو ارتقاء في التعليم التثقيفي المناقبي، وهو صعب على الذين نشأت نفسيتهم على الفساد، كما هو صعب القتال على الذين في قلوبهم مرض. والنفوس الضعيفة ترتد عن الأمور العالية الصعبة، ولكن النفوس الصحيحة تطلب دائماً الأسمى مهما يكن من أمر الصعوبات الحائلة دون بلوغه. وإذا كانت الأمم الراقية لا تفتأ تكثر بعثاتها على قمة جبل إفرست [Everest] في جبال هملايا وهي أعلى قمة في العالم، مع أن علوّ هذه القمة يفتك كل مرة بعدد من أفراد الحملة، ومع أن قمة الجبل ليست سوى قنة مادية كقنن الجبال الأخرى فكم هو أرفع قدراً وأسمى فخراً طلب أعلى القنن الروحية والمناقبية. فقول رشيد الخوري إن هذا التعليم المسيحي «يربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة» هو قول مبني على نظرة انحطاطية في شؤون الحياة. فهذا التعليم لا «يربط» الفطرة ولكنه يهذبها ويثقفها ويوجه قوتها نحو الأسمى. والرمح المثقف هو الأصح للحرب من الرمح الأعوج. وقصد الثقافة أو التربية هو دائماً تقويم الاعوجاج وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل. هكذا يشذب الكرّام السوري الكرمة فيقطع بعض فروعها ويطمر بعض الفروع الأخرى، فيكون من وراء هذا التشذيب والتثقيف أن مقداراً غير يسير من حيوية الكرمة يتحول من تغذية من فروع مسترسلة إلى فطرتها عديمة الجدوى إلى تغذية الفروع المثمرة، فتزداد غلة الكرمة أضعافاً. والرجل الذي يتحول مقدار غير يسير من حيويته عن تغذية الشهوات الفطرية إلى الأعمال المفيدة من ميكانيكية وصناعية زراعية وعلمية وأدبية وفنية واجتماعية واقتصادية لا يكون قد خسر قوته، بل تكون قد تحولت إلى الأنفع للمجتمع. ولا ننسَ أن المسيح تكلّم بناءً على أن كيان العائلة المعروف في سورية هو أساس المجتمع. وهذا الأساس العائلي السوري هو الذي عمّ المجتمع المتمدن، ففكرة العائلة هي في أساس فكرة المسيح في الزواج والطلاق والزنى.
وإذا رجعنا إلى الحلقات الأولى من هذا الدرس التي توضح لنا نفسية رشيد سليم الخوري وجدنا أن مثل هذا التعليم، سواء أكان يسوعياً أو محمدياً، لا يوافق نفسيته ومن هم على شاكلته. فرشيد الخوري بلغ من الحيوانية، في قصيدته التي يقول فيها: «من ذاق شهدك لم يخف من سمّك»، مبلغاً يستهجنه أي فتى أو فتاة نشأ في بيئة متمدنة، فضلاً على أي رجل أو امرأة من بيئة راقية.
كل نفس تهذبت وحلّ فيها الشعور الإنساني محل الإحساس الحيواني لا تتمالك أن تقزّ من وصف رشيد الخوري لكيفية إكراه فتاة على «تجديد عهد صباه» واحتقاره شعور تلك الفتاة واستهزائه بها. وسواء أكانت الحادثة التي يصورها واقعية أو تصويرية فهي تدل على مثالب نفسية بالغة في الانحطاط. فإن الحيوانات على أنواعها لا تحتقر ذكورها إناثها ولا تعاملها على الكيفية التي تصورها لنا أبيات الخوري بقوله:
فرنوت مغضبة إليّ فصابني سهم فوا شوق الفؤاد لسهمك
يا نحلة دون الأزاهر هجتها من ذاق شهدك لم يخف من سمّك
لا بدع أن جددت لي عهد الصبا برضاك عني تارة وبرغمك
ولا بدع أن لا ترى النفسية الظاهرة في هذه الأبيات التعليم المسيحي إلا أنه قيد «يربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح». فلا شك أن العمل بالقاعدة أو العقيدة المناقبية المسيحية يربط الفطرة الجامحة غير المثقفة ويخنق الطموح الانحطاطي الشهواني المتدهور إلى ما دون الحيوانية.
وقد رأينا في الحلقتين السابقتين بطلان ادعاء الخوري أن التعاليم المسيحية تعلّم الخنوع والهوان والذل. ونضيف إلى ما تقدم، في هذا الصدد، هذا المذهب:
إن الذي يتساهل في حقوقه طوعاً، لا كرهاً لا يكون ذليلاً ولا يتعود الهوان، بل يكون عزيزاً كبير النفس. فالهوان يكون بالتسليم والإذعان المكره عليهما عن عجز وجبن. وليس هذا شأن المتسامح اختيارا وطوعاً من أجل غاية نبيلة. فهذا يشعر أنه عفا عن مقدرة. لأنه كان في وسعه أن ينتقم أو أن يحاسب الظالم على ظلمه الجاهل. وإن في التسامح في الحقوق الفردية من أجل مبدأ اجتماعي عام من البطولة ما يفوق كثيراً ما في امتشاق الحسام لغضبة جاهلة.
ولكن المفكرين السطحيين لا يرون قوة هذا المبدأ وفلاح المجتمع العامل به، ولذلك يعزو رشيد الخوري التقدم العمراني عند الشعوب المسيحية إلى «مخالفة المسيحيين تعاليم الإنجيل وجريهم على السُنَّة الطبيعية التي أمر الشارع الإسلامي العظيم باتباعها». وهو يقول أيضاً:
«وليس تأخر المسلمين اليوم بناجم عن فساد في دينيهم يعوقهم عن التقدم بل عن تركهم نهجه السوي وتخلّقهم بما كان ينبغي أن يتخلّق به المسيحيون. فتقدم المسيحية اليوم وتأخر المسلمين هو نتيجة تبادلهما العقيدة، وعمل كل الملّتين بدين الأخرى إلى حد بعيد. المسيحي الغربي يجرّد سيف الرسول والمسلم الشرقي يرفع راية المسيح البيضاء ويحمل صليبه إلى الجلجلة، مباركا لاعنيه، محباً أعداءه، محسناً إلى الذين يسيئون إليه، يلطم على خده الأيسر فيحول الأيمن وجبينه وقذاله أيضاً ويسخّر للمشي ميلاً واحداً فيمشي عشرة على رجل واحدة تمادياً في الطاعة وسحق النفس».
هذه هي الزبدة المناقبية «للبحث الديني اسماً والاجتماعي فعلاً» التي استخرجها رشيد الخوري في حارضته، ليتخذها مستنداً لإثارة الفتنة الدينية وتحريض المتعصبين، ولمحاولة قتل العصبية القومية الآخذة في تأليف قلوب أبناء سورية ليكونوا مثالاً لغيرهم من الأمم التي أقعدها التعصب الديني المشؤوم عن طلب المجد القومي، فيتخلص منها رأساً إلى هذا القول الأثيم:
«أما ترون جمود المسلمين وقد قتل إخوانهم تقتيلاً ونكّل بهم تنكيلاً واستبيحت محارمهم وهتكت أعراض بنيهم وبناتهم وأخرجوا من ديارهم، ووهبت مقدساتهم ملكاً لشُذّاذ الآفاق من اليهود الذين هم أول وآخر من عادى نبيهم وآله وذريته؟، أفما أخلد المسلمون إلى أكثر من سكون المسيح وناموا على أشد من ضيمه وفاقوه في محبة أعدائهم فوالوهم على أهلهم وإخوانهم فتخاذلوا ففشلوا وذهبت ريحهم، وأطمعوا بهم صليبيــي هذا الزمان حتى لو خرقوا لهم حرمة الكعبة وحطموا الحجر وطمروا البئر ونسفوا عرفات وتصرفوا بأوراق المصحف وسطوا على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبعثروا عظامه، لما صعد الدم إلى رؤوسهم ولا حميت أنوفهم وقبعوا ملوكاً وأمراء ورعايا ساكتين كمن لم يعنِهم شي من الأمر».
هذا الكلام التعصبي الجاهل المثير الفتنة العمياء هو الغرض الأخير الكلي للحارضة التي سماها الخوري محاضرة، وللخطب التهييجية التي بدأها الخوري منذ بضع سنوات ومهد لها ببعض قصائده. كل ذلك ليقبض رشيد الخوري المال المتفق عليه مع بعض المؤسسات الدينية الإسلامية. على ما يستنتج من مقال لمدير (سورية الجديدة) الذي رد على بعض ترّهات الخوري حال ظهورها.
لولا انحطاط المستوى العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد الأعظم من خاصتهم لما وجدنا حاجة بنا للنظر في هذا القول الهراء والبحث فيه بحثاً جدياً. فإن من أشد الأمور عناءً للعالم أن يضطر إلى مناقشة جاهل. فتجاه هذا الكلام البعيد كل البعد عن كل شرط من شروط العلم وشروط المحاضر والمحاضرة، كما بيّنا ذلك في الحلقة الثانية عشرة من هذا الدرس (الصفحة 78 أعلاه)، يكاد لا يقف منطق ولا تثبت حكمة ولا يصمد علم، لأنه كلام غرضه الفتنة المقصودة، لا العلم. وقد قالوا: «إذا أردت أن تفحم عالماً فأحضره جاهلاً». وفي ذلك قال محمد: «ويل لعالم أمر من جاهله». ولن كان لرشيد الخوري شي من العلم الصحيح بحديث النبي العربي وشي من فهم العالم لكان كفانا مؤونة هذا العناء.
لا يوجد في هذا الزمان صليبيون وهلاليون يقتتلون من أجل حيازة قبر المسيح ومكان ولادته، أو من أجل «خرق حرمة الكعبة وتحطيم الحجر وطمر البئر ونسف عرفات والتصرف بأوراق المصحف والسطو على قبر النبي»، كما يقول الخوري الدجال، بل يوجد أمم ناهضة وثّقت أواصر وحدتها القومية بالتعاليم المسيحية التي يشترك فيها الإسلام، وبحثت عن أسباب ترقية عمرانها لا عن أسباب نصرة دينها بالسيف. وهذه الأمم الناهضة لا تفرق في سعيها لعزها ومجدها بين مسلم ونصراني. وإن من درس الحروب الأخيرة وجد أنها كانت فيما بين أمم مسيحية أكثر كثيراً مما كانت بين أمم مسيحية وغير مسيحيية. فمنذ عهد الفتوحات الإسلامية التي ولدت الفتوحات الصليبية أخذ التفكير القومي يسيطر رويداً رويداً على مجرى حياة الشعوب وأخذ الناس يدركون أن فرض أحد الأديان على الناس بالقوة لا بد أن يجد حداً يقف عنده. ولقد امتدت الفتوحات الإسلامية إلى إسبانية وحدود فرنسة بقوة الاستمرار ولكنها انكسرت هناك واندحرت وتراجعت إلى إفريقية. وقد جرى ذلك للمسلمين وهم في إبان اعتزازهم «بسيف الرسول» وعملهم «بالنهج السوي لدينهم». فكيف حدث ذلك للمسلمين وهم آخذون بنهج السيف الذي يعدّه الخوري «نهج الإسلام السوي»؟
حدث اندحار المسلمين للسبب عينه الذي حدث به اندحار أمم ودول مسيحية أمام جيوش المسلمين الأولى. وهذا السبب هو ترك التعاليم المسيحية الصادق عليها من الإسلام الذي يقول هو أيضاً بها. ففي سورية مثلاً كان الفساد المناقبي الذي جرّه تسلط الروم على البلاد من أهم العوامل التي جعلت البلاد تسقط في يد الجيوش العربية الإسلامية. والدولة الرومية نفسها كان يضج فيها الفساد المناقبي ضجيجاً، فانتفى التساهل من بين الناس وكثرت الأحقاد والضغائن حتى بين قادة الجيش والرهبان والقسس، وانتشر الزنى الذي ولد الحفائظ، فاشتدت المنافسات وطلبت الأحقاد الانتقام بجميع الوسائل، حتى إنه ندر أن جرت معركة من المعارك الكبرى في سورية إلا وكانت الخيانات الانتقامية وعوامل الحقد والمزاحمة من الأسباب الرئيسية لاندحار الجيوش السورية والرومية أو الجيوش المسيحية أمام الجيوش العربية أو الجيوش الإسلامية.
إن ما نؤكده في ما تقدم ليس من باب التخرصات أو الرجم بالغيب، بل من فوائد مدونات التاريخ. فقد أثبت الواقدي، بالإسناد إلى الذين حضروا الوقائع من أبطال المسلمين، أن فتح بصرى كان بخيانة البطريق روماس ذي الأمر عليها فإنه خرج يطلب المبارزة مع أمير العرب فخرج إليه خالد بن الوليد فخاطبه روماس وأظهر ميله إلى خيانة جماعته فعرض عليه خالد الإسلام فأسلم، وبعد ذلك تظاهر خالد وروماس بالقتال ليخدعا الجيش السوري ــــ الرومي فلا يشك أحد في أمر روماس وبعد معركة النهار بين الجيشين خرج روماس متخفياً وجاء جيش المسلمين وطلب مقابلة خالد بن الوليد فأُخذ إليه فقال له: «أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي وقالواع الْزم قصرك وإلا قتلناك فلزمت قصري وهو ملاصق للوسر ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا فلما جنّ الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه باباً فأتيتك فأرسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة»! فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مئة من المسلمين ويسير مع روماس، قال ضرار بن الأزور: «وكنت ممن دخل المدينة فلما صرنا في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة أقسام، إلخ»1.
وكان فتح خالد بن الوليد لدمشق شبيهاً بفتحه بصرى. وقد ذكرنا في حلقة سابقة أن ذلك كان بخيانة قسيس يدعى يونس. ذكر الواقدي أنه: «لما كانت تلك الليلة (ليلة صلح دمشق مع أبي عبيدة) نقب يونس من داره وحفر موضعاً وخرج على حين غفلة من أهله وأولاده وقصد خالداً وحدثه أنه خرج من داره وحفر موضعاً وقال: «والآن أريد أماناً لي ولأهلي ولأولادي» فأخذ خالد عهده على ذلك وانفذ معه مئة رجل من المسلمين أكثرهم من حِميَر»2.
وإن أسوأ ما حدث من الخيانات بسبب الفساد المناقبي هو ما كان في معركة اليرموك في يوم التعوير، وإليك حكايته نقلاً عن الواقدي3:
«قال الواقدي رحمه الله تعالى:
«حدثني أبو عبيدة عن صفوان بن عمرو بن عبد الرحمن بن جبير أن أبا الجعيد كان رئيساً من رؤساء أهل حمص فلما اجتمعت الروم على المسلمين في اليرموك دخلوا على حمص ونزلوا في بلدة تسمّى الزراعة وكان أبو الجعيد هذا قد جعلها مسكنه لطيب هوائها ومائها وانتقل من حمص إليها. فنزل عسكر الروم على زارعة عنده وكان فيها عرس لأبي الجعيد وزوجته تزف إليه في تلك الليلة. قال فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر فلما فرغوا من أمورهم قالوا: هات امرأتك إلينا، فأبى ذلك وسبّهم فأبوا إلا أخذ العروس فلما شنّع عليهم بذلك عمدوا إلى العروس وأخذوها كرهاً منه وعبثوا بها بقية ليلتم (وعلى طريقة رشيد الخوري تركوها كالعقد النثير على الثرى). فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا إليهم فقتلوا أولاده وكان له ولد من زوجة غيرها(!). قال فأقبلت أم الفتى فأخذت رأس ولدها في خمارها وأقبلت إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت: «انظر ما صنع أصحابك بولدي فخُذ بحقي» فلم يعبأ بكلامها. فقالت له أم الفتى: «والله لننصرن العرب عليكم» ورجعت وهي تدعو عليه فما كان إلا يسيراً حتى هلكوا في أيدي المسلمين. قال فلما كان يوم اليرموك بعدما قتل النسطور أتى أو الجعيد إلى عساكر المسلمين وقال لخالد: «اعلم أن هذا الجيش النازل بإزائكم جيش عظيم ولو سلّموا أنفسهم إليكم للقتل لما فرغتم من قتلهم إلا في المدة الطويلة فإن كدتهم لكم في هذه الليلة بمكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوني؟»، قالوا: نعطيك كذا وكذا ولا تؤدي جزية أنت وولدك وأهل بيتك ونكتب لك ذلك عهداً إلى آخر عقبك. فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى الروم وهم لا يعلمون وأتى إلى وادٍ عظيم مملوء ماء فأنزل الروم إلى جانبه وقال لهم: «إن هذا المنزل به العرب وأنا سأكيد لكم العرب بمكيدة يهلكون بها». قال رجل: «الناقوصة فيما بين الروم والعرب» ولم يعلم أحد ما عمقها فلما كان يوم التعوير وعلم أبو الجعيد أن النصر للعرب وأن العرب هم المنصورون(؟!) جاء أبو الجعيد إلى أبي عبيدة فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماعة من المسلمين المهاجرين فقال لهم: «وما قعودكم؟» قالوا: «وما نصنع؟»، قال: «إذا كان ليلة غد فأكثروا من النيران». ثم رجع إلى الروم لينصب عليهم حيلة. فلما كانت الليلة الثانية أوقد المسلمون أكثر من عشرة آلاف نار فلما اشتعلت النيران أقبل إليهم أبو الجعيد فقالوا: «أشعلنا النيران كما أردت فما بعد ذلك؟» قال: «أريد منكم خمسمئة رجل من أبطالكم حتى أشير عليهم بما يصنعونن»، فاختاروا من المسلمين خمسمئة رجل من جملتهم ضرار بن الأزور وعياض ورافع وعبد الله بن يسر وعبد الله بن أوس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وغانم بن عبد الله ومثل هؤلاء السادات. فلما اجتمعوا سار بهم أبو الجعيد على غير المخاضة وقصد بهم عسكر الروم فلما كادوا يخالطونهم أخذ أبو الجعيد منهم رجالاً ودلهم على المخاضة، ولم يكن يعلم بها أحد سواه ممن سكن اليرموك، وقاعل لهم: «ناوشوهم الحرب ثم انهزموا ودعوني وإياهم»، ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزموا قدامهم نحو المخاضة. فعند ذلك صاح أبو الجعيد برفيع صوته: «يا معاشر الروم، دونكم ومن انهزم! فهؤلاء المسلمون قد أوقدوا نيرانهم وعولوا على الحرب»، قال: «فأقبلت الروم على حال عجلة يظنون أن ذلك حق، فبعضهم ركب جواده عرياناً وبيعضهم راجل وساروا في طلب المنهزمين وأبو الجعيد يعدو بين أيديهم إلى أن أوقفهم على الناقوصة وقال لهم: «هذه المخاضة دونكم وإياهم»، فأقبلوا يتساقطون في الماء تساقط الجراد حتى هلك في الماء ما لا يعد ولا يحصى عدداً ولا يدركه جنان، فسمتها العرب الناقوصة لنقص الروم (الجيوش السورية ــــ الرومية)».
هذه الرواية المأخوذة عن مصدر من أهم المصادر الإسلامية تظهر بجلاء أنه لم يكن ينقص المسيحيين نهج السيف، وأن فشلهم لم يكن بسبب تعاليم دينهم، بل على العكس، بسبب تركهم التعاليم المناقبية السامية التي اشترك فيها الإسلام مع المسيحية. فقد استظهرت الجيوش السورية ــــ الرومية على جيوش العرب في يوم اليرموك عدة مرات حتى ولّت هذه الأدبار ولم ترجع إلى الحرب إلا تحت عامل استغاثة نساء المسلمين، ولكن الفساد المناقبي الداخلي كان أفعل من جميع سيوف العرب في تقرير مصير معركة اليرموك.
إن أسباب سقوط سورية هي عينها أسباب سقوط إسبانية. وأسباب انتصار شارل مارتل [سنة 732م في موقعة تور] على الجيوش الإسلامية هي أن تعاليم المحبة والتساهل في الحقوق الفردية جعلت الجيش الفرنسي لذلك العهد يداً واحدة على الجيش الإسلامي. وأسباب اندحار المسلمين في ما بعد كانت عملاً بالاعتماد على السيف فقط وترك التعاليم الإسلامية التي هي من نوع روح التعاليم المسيحية. فلما ترك المسلمون التراحم بينهم وحكّموا السيف في كل من أمورهم انشقوا وتخاذلوا، ولم يكن تخاذلهم وحده سبب سقوطهم، إذ هنال سبب مبدأي آخر وهو أن فرض العقائد بالقوة له حد يقف عنده وأن أفضل الطرائق لنشر العائد بين الشعوب المتمدنة هو الإقناع بصحتها وليس الإكراه عليها.
وإن أسباب جمود أمم العالم العربي حتى الأمس لم تكن عائدة إلى ترك السيف، بل إلى ترك تعاليم المحبة والتساهل والدفع بالتي هي أحسن وعمل المسلمين ببعض الآيات من كتابهم وترك العمل بالآيات الأخرى. فإن بعض الذين لا يتدبرون القرآن من المسلمين لا يفتأون يحرضون الغوغاء بمثل هذه الآيات القرآنية: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}1 … {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق (الإسلام) من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}2 . {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم}3 . {يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال}4. {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}5 . فنسي المسلمون الآيات الأخرى المتفقة مع التعاليم المسيحية كهذه الآيات: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون}6 .. {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}7 . {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}8.
فلو عمل المسلمون بروح هذه الآيات المكية التي نزلت في جو جهاد روحي غير مضطرب بجهاد السيف والغزو، يتفق مع سير العمل الفكري الروحي بين الأمم المتمدنة لوجدت الأمم العربية اليوم متحدة كل منها في داخلها اتحاداً قومياً متيناً لا مجال فيه للأحقاد والضغائن والمفاسد التي تجرها والويلات التي تجلبها.
وإذا كان الإسلام قد اتخذ السيف وسيلة لنشر الرسالة في العُربة حيث مجال الفكر أضيق من سُمّ الخياط1 ، فهو لم يجعل السيف غرضه. وأعظم نجاح أصاب المسلمين، حين كانت الجامعة الدينية أقوى جامعة، كان حين نفى المسلمون السيف من بينهم وعملوا بالتعاليم المسيحية التي جاء النبي مصدّقاً لها بآيات كهذه الآية: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}2. فالتراحم الداخلي هو أساس كل مجتمع يريد ألا يخرب وهذا هو التعليم المسيحي الكلي. فالمسيح علّم المحبة لمنع الانقسام، لأن «كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب وكل بيت ينقسم على ذاته يسقط»3 . والتعليم المحمدي لم يحد قيد شعرة عن التعليم اليسوعي، فسيف محمد كان لتعزيز العقيدة وهذه هي الطريقة المسيحية عينها، فالمسيح قال: «إني جئت لألقي ناراً على الأرض وما أريد إلا اضطرامها. ولي صبغة أصطبغ بها وما أشد تضايقي حتى تتم. أتظنون أني جئت لألقي على الأرض سلاماً. أقول لكم كلا بل شقاقاً (سيفاً)»4 . فالمسيح قال بوجوب الجهاد في سبيل العقيدة ولكنه خاطب أبناء بيئته بلغتهم فالسيف الذي جاء ليلقيه هو سيف العقيدة الروحي. وهذا واضح من قوله مردفاً: «فإنه من الآن سيكون خمسة في بيت واحد يشاق ثلاثة منهم اثنين واثنان ثلاثة يشاق الأب الابن والابن الأب والأم البنت والبنت الأم والحماة كنتها والكنة حماتها»5 ، وهذا الشقاق هو عراك فكري في سبيل الإقناع وليس قتالاً بالسيف والرمح. ذلك أن العراك الفكري هو الأكثر انطباقاً على الأمم المتمدنة كسورية. أما في بلاد العرب فالعراك الفكري في الأمور العقائدية لا سبيل إليه ولذلك لم يكن بد من الالتجاء إلى القتال بالسيف والرمح. والآيات القرآنية توافق هذا المذهب. ومنها ما سبق إثباته في هذا البحث ومنها في القرآن كثير كهذه الآية: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم}6. وإذا رجعنا إلى سورة الفتح7 التي أخذنا منها الآية القائلة: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وجدنا أن الآيات الأخر تثبت أن طبيعة البيئة هي التي أوجبت هذه الحزبية الدينية الشديدة. فهنالك الآية: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شي عليماً}1 فميّز القرآن حالة الحمية والشراسة وجعل السكينة للمؤمنين فيما بينهم مقابل الحمية عند الجاهلين ولكنه عاد فقال بالشدة على الكفار، أي بمقابلتهم بمثل شدتهم ولكن يجب ترك الشدة وإبدال الرحمة بها بين المؤمنين.
بناءً عليه يصح القول إن جمود الشعوب الإسلامية أو التي سوادها المسلمون ليس عائداً إلى عدم الأخذ بالسيف، بل إلى سبب ترك تعاليم التساهل والتراحم، وإلى تشبث سواد المتعصبين فيها بالحزبية الدينية على طراز حزبية العُربة، حزبية القتال والتباغض، وإلى عدم فهم تعاليم الإسلام الروحية التي تتفق كل الاتفاق مع تعاليم المسيحية وإلى عدم إدراك عدد كبير من متعهدي المسلمين في الشعوب المتمدنة أن تقدم الإسلام في البيئات المتمدنة يكون بالقوة الفكرية والناحية الروحية أكثر مما يكون بقوة السيف والناحية المادية.
إن الخبير المتبصر في أسباب نهوض أمم وسقوط أمم يدرك أن فلاح الأمم المسيحية الأوروبية والأميركية هو نتيجة العمل بتعاليم التساهل والمحبة التي قال بها المسيح، وأيدها الإسلام في القرآن والحديث، وليس بترك هذه التعاليم العمل بالقسم المختص بالبيئة العربية من التعاليم الإسلامية، الذي إذا درسناه درساً وافياً اتضح لنا أنه مختص بما يجب على المسلمين من العرب تجاه بقية العرب غير المسلمين الذين يناوئون المسلمين مناوأة جماعة لجماعة.
ويجب أن يكون واضحاً كل الوضوح أن قصد التعاليم المسيحية هو رفع المناقب الفردية والعائلية، فالتساهل الذي علّمه المسيح قصد به الأفراد لسلامة المجتمع وفلاحه، ولم يقصد به أن يتنازل المجتمع، أي مجتمع، عن حقوقه السياسية والاقتصادية والروحية، لأن هذا التنازل يكون معناه سقوط المجتمع، لا قيامه، والمسيح أراد قيام المجتمع، لا سقوطه.
لذلك لا يصح مطلقاً نسبة الاستكانة القومية إلى المسيحيين وتعاليم المسيح، كما يريد رشيد الخوري أن يفهم الناس.
أما تخصيصه المسلمين في أمر اليهود فمن أشد اللؤم في الدسّ وإثارة الفتن، فليست مقدسات المسلمين وحدا هي التي وهبت لشُذّاذ الآفاق من اليهود، بل مقدسات المسيحيين أيضاً، ولم يكن نبي المسلمين أول من عاداه اليهود ولا آخر من عادوه، فهم قد عادوا قبله المسيح واضطهدوه وصلبوه وحاربوا أتباعه، والمسألة الفلسطينية ليست مسألة إسلام ويهود، بل مسألة قومية من الطراز الأول يشترك فيها السوريون المسلمون والمسيحيون.
هاني بعل
للبحث استئناف

بين الجمود والارتقاء ــ تخليط مخلّط

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (27)،

1/9/1941م

قلنا في ختام الحلقة السابقة (الصفحة 145 أعلاه) إن تعاليم المسيح المناقبية القائلة بالتساهل في الحقوق الفردية لا تعني مطلقاً ما يفهمه المصابون بالعجز الفكري، كرشيد الخوري الواغل بسفسطته على العلم والفلسفة، والخمول والاستكانة وقبول الذل والتسليم للظلم، بل على العكس إنها تعني سلامة المجتمع وفلاحه. وهو نفي الخمول والذل والظلم بوضع قاعدة البطولة الاجتماعية المتلائمة مع حالة التمدن السوري الذي صار أساس التمدن العالمي الحديث في مكان البطولة الفردية أو القبلية التي هي من خصائص الشعوب الأولية والمتبدية، والتي لا تصلح أساساً لإنشاء مجتمع، متحد، راقٍ. هذه البطولة الاجتماعية هي بطولة التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع وهي البطولة التي يكتشفها الدارس الخبير في صميم النفسية السورية منذ بدء التاريخ. وإن جذور مبدأ التضحية الفردية في سبيل الخير العام موجودة في تضحيات الكنعانيين (ومنهم الفينيقيون) لمولوخ وداغون التي استفظعها بعض الدارسين، لقساوتها المتفقة مع درجة التمدن الأولية ولكنها، في الحقيقة، تمثل مبدأ فدية المجموع بتقديم الفرد ذبيحة تضحية من أجل استرضاء الإله واستعطافه ليسبغ النعمة على الوطن والأمة. إن هذا المبدأ أساسي لكل مجتمع جدير بالبقاء والارتقاء، الذي ظهر بمظهر وحشي في عهد مولوخ هو هو عينه الذي عاد فظهر في تعاليم المسيح بمظهره الإنساني الراقي الخالص من أوهام العصور القديمة التي كانت في فجر التاريخ.
وقد لازم مبدأ التضحية الفردية الحضارة السورية في جميع أدوارها فكان من أفعل العوامل في ازدهارها وامتداد نفوذها وبسط سلطان الدول السورية الهكسوسية ثم الفينيقية على شاطى إفريقية الشرقي والشمالي، وعلى جزر البحر الأبيض المتوسط وعلى إسبانية وشاطى فرنسة نحو المتوسط. ومن الروايات المدونة عن هذه البطولة الاجتماعية في تاريخ الدول الفينيقية أن ربان أحد المراكب التي تكوّن الأسطول الفينيقي التجاري عندما رأى المراكب الإغريقية لاحقة به تصوّر وخامة العاقبة على التجارة الفينيقية من جلب مزاحمين إغريق إلى بعض الأسواق أو مصادر المعادن، ففضّل التضحية بنفسه فخرق مركبه وأغرقه فارتدت المراكب الإغريقية خاسرة.
فمبدأ التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع هو أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدن أو متوحش، ولولا هذا المبدأ السامي لما سقط جندي واحد شهيداً في ساحة الحرب دفاعاً عن شرف أمته، أو طموحاً إلى مجد قومي أو إلى موارد جديدة للحضارة. ولولا هذا المبدأ لما عرّض نفسه طبيب خبير لخطر الموت في تجربة بعض السموم أو الجراثيم في جسده، ولما جازف طيار بحياته بامتحان طيارة ولا غواص بامتحان غواصة، ولولا هذه التضحيات الفردية لما حدث هذا التقدم الباهر في الحضارة.
والتضحية ليس لها شكل واحد لأنها ليست حالة شكلية، بل مبدأً عاماً. فالذي لا تكون التضحية قاعدة عامة عنده لا يعرف البطولة الاجتماعية ولا يُقدِم عليها ففائدته للمجتمع قليلة أو سلبية. ومن أشكال التضحية تضحية الشهوات الحادة وتضحية الأنانية العمياء التي يسميها سفسطائي الخلود رشيد الخوري «تقييداً للفطرة بالسلاسل الثقيلة». وهذه التضحية صعبة جداً على الذين لم يروضوا أنفسهم على الفضائل واندفعوا وراء المثل السفلى. ولذلك يصف رشيد الخوري المسيحية بأنها «عدوة نفسها»، لأنها في تسميته لها «ديانة التضحية» ومن أجل ذلك يراها عديمة الفائدة. وهو يفضّل الإسلام عليها، لأن الإسلام في عرفه، كما جاء في حارضته «دين الفطرة» فيقول فيه: «فهو في اعتقادي موجود قبل وجوده أي قبل ظهور الدعوة وما محمد بن عبد الله إلا منبه له ودالّ عليه فهو مكتشفه لا مخترعه». وهو يريد بذلك أن الإسلام دين إبقاء الإنسان على فطرته الأولى بكل ما فيها من شهوات وأنانيات ومحبة للكسب بلا حدود، وهو يعني أيضاً أن الإسلام ليس دين الحكمة الإلهية، بل «دين اكتشاف الفطرة» وهو بعد بلوغه هذا الأوج من السفسطة السفلية يعود فيقول إن «شريعة محمد وإن سايرت الطبيعة فهي كاسرة من حدتها مقلّمة أظفارها»، فلا تدري تماماً ما يريد أن يقول هذا الجاهل المخلط، ولا تعرف للإسلام صفة ثابتة، فهو مرة «دين الفطرة الموجودة فيها قبل وجوده»، ومرة أخرى هو دين «مسايرة للفطرة ولكنه كاسر من حدتها، مقلّم أظفارها»، وبعد كل هذا وذاك لا تعرف مما يقوله نتيجة فكرية ثابتة، سوى أنه يهرف عن الإسلام بما لا يعرف ويقول كلاماً لا محصّل له كمن يتكلم عن أمور مغيّبة، وإنك لو قتلت نفسك جهداً لما استنتجت من كل هذا التخليط أية فكرة ثابتة عن الحالة الاجتماعية المثلى أو المستوى الاجتماعي ــــ النفسي التي يرمي الإسلام إلى إيجادها.
إن الخوري يفضّل الإسلام على المسيحية لأن هذه تطلب مقداراً أكبر من الرياضة النفسية والجسدية لتحويل معظم قوة الإنسان نحو الأرقى والأنفع للمجتمع كمجد البطولة والتضحية والمناقب العالية التي تبلغ ذروة الشهامة والعفو وبذل المقدرة في سبيل خير المجتمع، ولأن الإسلام، في عرفه، يكتفي بالكسر من حدة الفطرة غير المروض وتقليم أظفارها. فماذا يعني ذلك غير الاكتفاء بحد من الارتقاء تجمد الإنسانية عنده جموداً يشبه جمود الحيوانات، التي يمكن للمرء أن يكسر من حدة فطرتها ويقلّم أظفارها، كما يفعل مروّضو الوحوش، دون أن يكون من وراء ذلك أي ارتقاء اجتماعي ــــ نفساني عند تلك الحيوانات، ذلك لأن كسر الحدة وتقليم الأظفار لا يغيران النظرة إلى الحياة تغييراً نفسياً جوهرياً بمعنى الارتقاء.
إذا كانت هذه هي النظرة الإنسانية المثلى في ما يجب أن يكون غرض الفلسفات الدينية، فأكثر قبائل إفريقية وأسترالية وأميركة المتوحشة قد بلغت «قمة الجودي التي يستقر عليها فلك الإنسانية الغارقة في طوفان العقائد والنظريات والفلسفات المتباينة»، لأن لجميع هذه القبائل أدياناً فطرية تكسر من حدة الفطرة وتقلّم أظفارها!
كل قبيلة من قبائل الشعوب الأولية أو الفطرية لها عادات من خرافات أو دين تكسر من حدة الفطرة وتقلّم أظفارها، وفي الجاهلية كان للعرب أيضاً عادات من خرافات أو سحر أو دين تكسر من حدة الفطرة وتقلّم أظفارها، فكان لهم شهر حرام يترك فيه حمل السلاح ويرفع الثأر والانتقام، وعادات في الزواج والمعيشة والاجتماع وشورى في القبائل. فإذا كانت هذه هي قمة الجودي فلماذا جاء الإسلام إذا لم يكن درجة فوق تلك الدرجة الأولية لقبائل العربة واتجاهاً نحو درجة أعلى في الإنسانية عامة يشترك فيها مع درجة المسيحية؟
ليست هذه الحلقة مدار الكلام في هذا الموضوع فسنعود إليه في حلقة تالية، فلنعد الآن إلى إشباع ما بدأناه في الحلقة الأخيرة (الصفحة 135 أعلاه).
رأينا في الحلقة المذكورة أن المقصود من تعاليم المسيح هو شي غير «تقييد الفطرة بالسلال الثقيلة»، وأن هذا الشي الذي لا تقدر العقول الناقصة أو العاجزة عن إدراكه هو سيطرة الوعي النفسي على الأفعال الحيوانية وما هو بمعنى الغريزة، وتحويل مقدار غير يسير من حيوية الإنسان التي كانت تنفق في المتع الجسدية إلى الأعمال المفيدة، من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأدبية وفنية واجتماعية واقتصادية. وقد ذهب المسيح إلى هذه النظرة المناقبية رأساً، لأن البيئة السورية كانت قد ارتقت عن درجات كسر حدة الفطرة وتقليم أظفارها وأصبحت تتطلب مستوى أعلى من الارتقاء النفسي.
ببلوغ هذه الذروة المناقبية ابتدأ نجاح الأمم المسيحية وليس بالتخلي عنها، كما يدّعي هذا الواغل على المواضيع الاجتماعية الملقب «بالقروي». أما أسباب تأخر الشعوب الإسلامية وجمود المسلمين فبعضه لا دخل للدين فيه حيث البيئة الطبيعية قاسية لا زرع فيها ولا معادن وضرعها قليل. ولكن حيث أسباب العمران متوفرة فأهم أسباب الجمود هي ترك العمل بالتعاليم الإسلامية العالية المشتركة مع روحية التعاليم المسيحية، واكتفاء بعض الشعوب الإسلامية من الدين «بكسر حدة الفطرة وتقليم أظفارها» وترك ذروة المثل العليا النفسية. فبعدت عقولهم عن طلب التفوق العلمي والتكنيكي والفني. فقد قيل: «من طلب العلى سهر الليالي»، ولكن الذي يقضي لياليه مرتمياً مع فتاة فوق أغصان الربى ليذوق شهدها غصباً عنها ويزدري شعورها ويحتقر كرامتها، كيف السبيل لخروجه من جمود السفولية ومثالب المثل الدنيا؟
بين الأمم التي أكثر عددها من المسلمين تجد سورية أرقاها وأشدها نشاطاً وأسبقها في العلم والفنون والصناعات، وما ذلك إلا لمؤهلات جنسها وعملها بموجب النظرة المناقبية السورية المتجلية في تعاليم المسيح وأرقى تعاليم محمد. فأكثر السوريين المسلمين لا يميلون إلى تعدد الزوجات والانغماس في الشهوات المكسورة الحدة، ويفضلون توجيه قواهم إلى الأفيد للمجتمع. وقد جمد العلم عندهم في القرون الأخيرة بتوالي الفتوحات البربرية. ولكنك لا ترى هذه النظرة أو الحالة عينها عند مسلمي إفريقية حيث مزيج الشعوب وطبيعة الأرض تجعل المجتمع أكثر ميلاً إلى اللهو والأفعال الغريزية.
وقد أثرت تأثيراً كبيراً في حالة جمود الشعوب الإسلامية تعاليم الجهاد الديني الحزبي السياسي التي هي من الخصائص العربية في الدين، وليست من المبادىء الإنسانية العامة. أي أنها تعاليم لا توافق البيئات المتمدنة. فلو كان المسلمون السوريون، ولا نتكلم عن غيرهم، «يرفعون راية المسيح البيضاء» وراية محمد البيضاء فيتساهلون في حقوقهم الفردية ويحسنون إلى الذين يسيئون إليهم ويعفون عمّن ظلمهم ويصلون من قطعهم، لكانوا أزالوا أعظم عقبة من عقبات الاتحاد القومي بفضل النظرة المناقبية التي يشترك فيها محمد والمسيح. ومتى حصل التساهل من الجانبين المسيحي والإسلامي في الحقوق الفردية أو الحزبية، الدينية، الداخلية، بفضل هذا الفهم العميق لغاية دينيهما، وتمّ من وراء ذلك الاتحاد القومي المسالم كل المسالمة في الداخل، أمكن، حينئذٍ، أن تنهض الأمة السورية كرجل واحد وتسير إلى فلاحها فلا تكون في وحدتها هذه إسلامية ولا مسيحية، بل قومية ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة ويفهم كل منهم دينه بهذه النظرة.
بهذا التعليم السوري القومي تنهض الأمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي وليس «بسيف الرسول»، كما ينادي رشيد الخوري المأجور ليقول هذا القول.
إن سيف الرسول لا يفيد في النهضات القومية. ففائدته الوحيدة كانت لنصرة الدين في بيئة يتعذر فيها الانتصار بالفكر والفهم، في العُربة. وما نسبة السيف إلى محمد في القضايا القومية إلا من باب التزلف إلى متهوسي المسلمين: فالسيف انتضته الدول والأمم في حروبها وفتوحاتها قبل الإسلام وقبل المسيحية، ولقد شق سيف هاني بعل إيطالية من شمالها إلى جنوبها في فتح لم يشهد التاريخ له مثيلاً قبل محمد بنحو ثمانية قرون. وكان السيف يُشهَر في العُربة قبل محمد، ومزّية محمد الوحيدة في استعمال السيف هي أنه أدخله في المسائل الدينية أيضاً، أما في المسائل القومية فلم يكن لمحمد أي فضل فيه.
وهذه الحقيقة التي لا غبار عليها تمكننا من إدراك مبلغ سخافة البيت الذي نظمه رشيد الخوري تزلفاً وتمهيداً لوغوله على العلم، وصفق له السيد حسن كامل الصيرفي الكاتب في بعض المجلات المصرية وهو:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد واهجر يسوعا
فنسبة رفع الضيم إلى سيف محمد الديني ليس سوى إقحام يخالف جميع الحقائق التاريخية، فالأمم من قبل محمد بعشرات القرون تعمد إلى السيف أو الرمح أو النبلة لرفع الضيم. أما تهكمه بعد هذا البيت على تعاليم المسيح بقوله:
«أحبوا بعضكم بعضاً» وعظنا بها ذئباً فما نجت قطيعا
فمن أغرب ما عرف في باب التخليط والخبل: «فأحبوا بعضكم بعضاً»1 هي لوعظ الرعاة وجمع الخراف وليست «لوعظ الذئاب». ولذلك أوصى المسيح تلاميذه حين أرسلهم ليكرزوا قائلاً: «ها أنا مرسلكم مثل خراف بين ذئاب فكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام»2 . وهذا يعني أن لا يبقوا مع الذئاب كالخرفان، بل أن يصيروا كالحيّات في دهائها وإدراكها مع محافظتهم على الوداعة وسلامة النية، لأن مهمتهم تعليمية وليست حربية.
أما هذر الخوري القائل: «ليس الإنجيل في نظر النصارى إلا ملحقاً أو ذيلاً لتوراة اليهود يكمل ما ابتدأ من شرها الفظيع ويتمم نبوءاتها القاضية بتجديد عهد العداء والتعدي على أهل فلسطين» فمن أحط النفاق والزندقة والتدجيل. وكذلك قوله: «فماذا استفاد المسيحيون من إنجيلهم وقد علّقوه في قفا التوراة للفرجة»، فإذا كان رشيد الخوري يتظاهر بالنقمة على المسيحية لمجرد أن المسيحيين جمعوا الكتابين التوراة والإنجيل في مجلد واحد أحياناً، فما قوله بوجود قسم كبير من سيرة اليهود وفرائض دينهم في القرآن كما بيّنا آنفاً؟
المسيح هو الذي حرر الإنسانية من الشرائع التي جعلها اليهود أحكاماً أبديةً. أما أن المسيحيين أرادوا جمع التوراة إلى كتابهم ليؤيدوا ألوهية المسيح وصحة مجيئه موعوداً به في النبوءات فلا يفيد ذلك ما يفيده وجود شرائع موسوية كثيرة وقصص يهودية في صلب القرآن.
إن الأمم المسيحية المتفوقة لم تبلغ ما بلغته من التقدم بتجريدها «سيف الرسول» بل بتجريدها سيف الوطنية أو القومية أو الفتح المعروف من قبل زمن محمد. هذا من الناحية الخارجية، أما من الناحية الداخلية فكان تقدمها بترك السيف واتباع تعاليم العدل والرحمة التي لا قيام لأي مجتمع بدونها ولذلك نزلت الآية القرآنية بجعل الرحمة قاعدة الترابط بين المسلمين واعتماد السيف في المسائل الخارجية فقط. ولمّا كان الدين الإسلامي قد تحول من مجرد تعليم روحي إلى دولة قائمة على قاعدة الدين غرضها جمع مصالح المنضمين تحت لوائها وبسط نفوذها على الدنيا بأسرها عملاً عملاً بما جاء في القرآن: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}1 وقوله: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون}2، كان لا بد له من الأخذ بأسباب قيام الدول من تجنيد الرجال ومباشرة الحرب، ولكن هذه الغاية ليست غايتها القصوى، بل هي وسيلة إلى الغاية القصوى التي هي: الرحمة في المجتمع والعدل في الحكم. وهذه هي زبدة التعاليم المسيحية. فإذا افترضنا أن الله جعل الأرض كلها ميراث المسلمين وورثوها فعلاً فماذا بعد ذلك، أليس القصد من هذا الوعد تعميم الصلاح من الرحمة والعدل؟ ألا يقول القرآن: {محمد… والذين معه… رحماء بينهم}3؟ وقال أيضاً: {من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}4 {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}5..
أما المسيحية فلم تنشأ نشأة دولة ولم تسر على خطة دولة، بل كانت تعليماً فلسفياً مناقبياً منزهاً عن خطط الدولة، غرضه خير المجتمع الداخلي. وما نريد بالمجتمع هنا هو ما أوضحه زعيم الحركة السورية القومية في كتابه (نشوء الأمم) وسماه «الواقع الاجتماعي». وهو يعني كل مجتمع أوكيان اجتماعي. فالتعليم المسيحي ليس غرضه إنشاء دولة تجمع أتباعه وتحارب الدول الأخرى، وليس قصده جمع أشتات شعب وتنظيمهم في دولة كما جرى لليهود والعرب، لأن البيئة السورية عرفت الدول من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات وجندت الجنود وأنشأت الأساطيل البحرية وسنّت القوانين، وإنما كان غرضه إيجاد القواعد المناقبية التي تثبت المجتمع وتزيد فاعليته الروحية تجاه زعازع السياسة والحروب. والأمم تتعرض في تاريخها للانكسار كما تتعرض للانتصار، فإذا انكسرت فلا إقالة لعثارها إلا بمبادىءمناقبية متينة، أما إذا فقدت هذه المبادىء واعتمدت السيف فقط فإن السيف يأخذها ولا يعود يقوم لها قائمة.
في الحرب الحاضرة تسقط أمام أعيننا دول ضخمة حاربت حروباً كثيرةً وفتحت الفتوحات العديدة، ولم تَحِدْ ولا مرة عن نهج السيف السويّ. فما هو السر في سقوطها؟. السر في فقدها القوة الروحية والمبادىء المناقبية. إن سبب سقوط فرنسة مثلاً، هو في ترك الثقافة المناقبية وتقطيع «السلاسل الثقيلة التي قيدت الفطرة» (على تعبير رشيد الخوري)، وإطلاق أبنائها العنان لشهواتهم المقلمة الأظفار الناعمة الملمس، وإن سبب انتصارات ألمانيا الأخيرة هو في كبح جماح الشهوات وسلك سبيل «الشدة المتناهية» في ترويض النفوس والأبدان.
وإن من أسباب جمود المجاميع الإسلامية غير ما ذكرنا، بعض أحكام الشرع التي لا تتفق مع عوامل التقدم المدني كمعاملة المرأة وتحجيبها. فتصور أن مدينة لندن أو برلين أو نيويورك، بملايينها وصناعاتها ومكاتبها ودوائرها، آهلة بمجموع إسلامي محافظ على قاعدة تحجّب النساء حتى لا تسفر المرأة إلا لزوجها وأخيها وابنها وأقرب الأقربين إليها فهل يمكن هذا المجموع أن يقوم بمتطلبات حاجات عمران مدينة من هذه المدن على مستواها التمدني الحاضر، الذي لم يبلغ هذه الدرجة إلا باشتراك المرأة كزوجة وأم وأخت ومدبرة بيت ومربية أولاد ومعلمة مدرسة وممرضة وكاتبة على الآلة الكاتبة، ومشتركة في المعاهد الثقافية والدور العلمية وفي كل شأن من شؤون الحركة الاجتماعية وفي الأدب والفنون وفي جميع أشكال الحياة الاجتماعية والقومية؟
ألم تجد تركية أن تمسكها بفهم الإسلام القديم لا بد أن يقضي عليها فقامت بحركة تجديدية من فوق إلى تحت وصارت من الأمم العصرية التي لها منزلة خطيرة في مجمع الأمم الحية فكان الفضل في نهضتها للوعي القومي الذي قاد كمال أتاتورك الأمة التركية إليه، على الرغم من صياح شيوخ الدين الغيورين على نص الشرع ومن صخب الغوغاء الذي عمد الشيوخ إلى تهييجه؟
ألم يكن الفضل في نهضة الأمم المسيحية من قبل أنها نهضت في وجه تحويل المسيحية إلى دولة دينية رئيسها البابا خليفة المسيح؟
نقول كل ذلك لنبيّن أن الموضوع القومي هو غير الموضوع الديني وأن أسباب تقدم الأمم وتأخرها ليس ما ذكره رشيد الخوري في حارضته، وأثبتناه في الحلقة السابقة (الصفحة 145 أعلاه)، ولنوضح أن المبادىء الدينية الوحيدة التي تفيد الأمم في نهضتها القومية هي المبادىء المناقبية التي يقول الخوري برفضها ويعيّر المسيحية بها ويمدح الإسلام لاعتقاده أنه مخالف لها.
ولكن هل لرشيد الخوري اعتقاد؟، وهل قال رشيد الخوري ما يعتقد حين أبدى هذه الغيرة المضحكة على «حرمة الكعبة والبئر وعرفات وأوراق المصحف وقبر النبي؟».
ألم نرَ أنه في (الأعاصير) الذي جمع فيه أخلاطاً من النظم سماه «شعره الوطني» يقول أيضاً:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
فقد مزقت هذي المذاهب شملنا وقد حطمتنا بين ناب ومنسم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم 1
ويقول أيضاً:
ما أضاحي عرفات ومنى بل ضحايا الشام بالمجد غنية2
فمن أين جاءته الآن هذه الحمية الجاهلية على عرفات ومنى والبئر؟
أثبتنا في الحلقات السابقة أن ليس لرشيد الخوري تفكير خاص وأن معظم ما في نظمه ونثره مستعار إما من بعض أقوال كبار المفكرين والكتّاب أو من عاميين نيّري الذهن، وأكثر ما اقتبسه الخوري من غير ذكر أو شكر هو سطحي يوافق مقدار عقله. وقد قلنا في الحلقة السابقة (الصفحة 138 أعلاه) إنه لولا الانحطاط العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد الأعظم من خاصتهم لما وجدنا حاجة بنا للنظر في قوله الهراء الرامي إلى إيقاد نار الفتنة الدينية العمياء. ونزيد الآن أن من الدوافع التي دفعتنا إلى مناقشة كلام هذا الجاهل الأحمق كون بعضه مقتبساً من كلام بعض مشاهير كتّاب العصر الماضي الرجعيين الذين انتشرت كتاباتهم في أوساط إسلامية واسعة، وعدّها سوادهم النور الذي يجب أن يسترشد به، أمثال الكاتب المشهور جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، فإن كلام الخوري الذي أثبتناه في الحلقات السابقة الأخيرة وفنّدناه وأظهرنا بطلانه وفساد تأويله يكاد في بعضه يكون منقولاً بالحرف عمّا جاء في مقالتين وردتا في (العروة الوثقى) التي أصدرها الكاتبان المذكوران في باريس سنة (1884م). وهاتان المقالتان هما «النصرانية والإسلام وأهلهما»3، والثانية «انحطاط المسلمين وسكونهم»4، وفي بعض مقالات أخرى كمقالة «القضاء والقدر»5. فمن المقالة الأولى أخذ الخوري هذا القول كله، بتحريف قليل:
«إن الديانة المسيحية بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شي وجاءت برفع القصاص واطّراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية. ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده»1 .
ويتلو ذلك وصف لتقدم الأمم المسيحية بما يخالف تعاليم دينها ووصف لتأخر المسلمين خلافاًع لتعاليم دينهم. ولما كنا قد بلغنا إلى هذا المصدر الأساسي للأقوال والأفكار التي وردت في حارضة الخوري، فإننا سنتمم معالجتنا لموضوع الدينين المسيحي والإسلامي وأغلاط فهمهما وما ينتج عن ذلك من نظرات شاذة عن العلم والمنطق في الاجتماع والسياسة بناءً عليه، تاركين ما تبقى من حارضة الخوري، وهو معظمها، لعدم وجود أية وحدة فكرية فيها. فهي فسيفساء خطابية جمعت موادها «من كل وادٍ عصا». ونعود بعد الفراغ من النظر في هذا الموضوع إلى تناول تعريضه بالنهضة السورية القومية ومسألة «العروبة».
والذي يقابل كلام (العروة الوثقى) الملقى على عواهنه على ما أثبتناه في هذا الصدد في الحلقات الأخيرة من هذا البحث يجد أن أقل ما يقال فيه إنه اجتهاد مشوّه مشوش لا تدبّر فيه للإنجيل والقرآن. فالقول إن المسيحية جاءت برفع القصاص باطل وإنها جاءت باطّراح الملك والسلطة باطل، وإنها قالت بنبذ الدنيا وبهرجها باطل، إلا في وجوه مخالفة للفضائل الاجتماعية أيّدها فيها القرآن، وقد بيّناه.
المسيح قال: «لا تحكموا بحسب الظاهر ولكن احكموا حكماً عادلاً»2 وهذا لا يرفع القصاص، ولا يوجد في الإنجيل قول باطّراح الملك والسلطة. وأما أن المسيحية «وعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين» فقد حوّره الخوري وجعله هكذا: «لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان، إلخ». وقد بيّنا فساده في الحلقات السابقة وأثبتنا أنه تأويل سطحي مغرض. على أن في هذا الكلام اجتهاداً في فهم قول المسيح للذين كانوا يبحثون عن جريرة يأخذونه بها ليهلكوه «أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»3. ولكن ما أبعد هذا الاتجاه عن حقيقة ما عناه المسيح. فإن هذه الآية ليست مطلقة ومستقلة، بل هي متعلقة بحادث وعبارات سابقة. وذلك أن رؤساء الدين اليهود لمّا عجزوا عن أخذ المسيح بجرم من تعاليمه يهيجون الشعب به عليه صاروا يطلبون أن يجدوا فيه مخالف لسلطان الدولة الأجنبية الحاكمة ليسلموه إليها. وعلى هذه القاعد جرى الرجعيون في سورية ليسلّموا زعيم النهضة السورية القومية إلى سلطان الدولة الأجنبية الحاكمة بعد أن عجزوا عن أن يجدوا نقصاً في تعاليمه يثير الشعب عليه. والواقع الذي اقتضى قول المسيح هو كما يلي: «فهمّ رؤساء الكهنة والكتبة أن يلقوا عليه الأيدي في تلك الساعة ولكنهم خافوا من الشعب لأنهم علموا أنه قال هذا المثل عليهم. فرصدوه وأرسلوا إليه جواسيس يراؤون أنهم صدّيقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه إلى رئاسة الوالي وسلطانه. فسألوه قائلين: يا معلم قد علمنا أنك بالصواب تتكلم وتعلّم ولا تأخذ بالوجوه، بل تعلم طريق الله بالحق. أيجوز لنا أن نعطي الخراج لقيصر أم لا. ففطن لمكرهم فقال لهم لماذا تجربونني؟ أروني ديناراً. لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا لقيصر. فقال لهم أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»1.
كل متدبر لهذه الآيات يجد أنها أبعد ما يكون عن الاجتهاد القائل بأن المسيحية تقول بوجوب «الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها». ولو كان هذا قصد تعليم المسيح لكان قاله في مواعظه ولكان أجاب السائلين على الفور «يجوز أن تعطوا الخراج» ولكنه لم يقل ذلك. بل قاله إنه يجوز رد دنانير قيصر المطبوعة صورته وكتابته عليها إليه. ولذلك لم يقدر اليهود أن يأخذوه بجرم ضد الدولة ولم يقدروا أن يدّعوا أو يقولوا إنه يعلّم الخضوع لسلطان أجنبي ويهيجوا ويهيجوا الشعب عليه. وهم إنما سألوه ليوقعوه في إحدى الجريمتين السياسية أو المناقبية فتغلب على مكرهم برفض الموافقة على دفع الجزية، ولكن من غير الوقوع في مكيدة أعدت له ليسلموه إلى المحكمة الأجنبية. والقرآن يقول: {والله خير الماكرين}2.
أما الإشارة إلى «المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية» ففيها تشويه كبير. وقد رأينا أن المسيح ألقى نزاع العقائد بين الناس ولكنه علّم بالابتعاد عن المنازعات الشخصية حرصاً على وحدة المجتمع وسلامته. ولم يقل بترك الدفاع عن حقوق المجتمع تجاه المجتمعات الأخرى، وهو ما يرمي الاجتهاد المذكور إلى إيهامنا أنه قاله أو علم به وهو باطل كما رأيت.
ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الدين الإسلامي إنه «مدرحي» أي «مادي روحي معاً»، فقد يظن القارى غير المطلّع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتاب (نشوء الأمم) لسعاده ومن شرح لمبادىءالحزب السوري القومي، فهو فكرة فلسفية اجتماعية للزعيم أبداها في مناسبات عديدة، وآخر ما أعلنه من أمر نظرته الفلسفية كان في خطابه في أول مارس/آذار سنة (1940م)، الذي نشر في (سورية الجديدة) في العدد (63) الصادر في (27) إبريل/نيسان من السنة المذكورة. قال سعاده:
«إن الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادىء المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ــــ الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيــي ويعمر ويرفع الثقافة ويسيّر الحياة نحو أرفع مستوى».
إن المبدأ الذي جاء به سعاده هو نظرية فلسفية شاملة تتناول العالم وشؤونه الاجتماعية والاقتصادية، وشرحها يقتضي كتاباً على حدة يبحث في المبادىء الماركسية المادية لتنظيم المجتمع والمبادىء الفاشستية المازينية الروحية لتنظيم المجتمع، والصراع بين هاتين الفئتين من المبادىء ثم في مبدأ سعاده الذي يخرج من القاعدتين المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تُجمع عليها الإنسانية، وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ.
أخذ رشيد الخوري هذه الفكرة الفلسفية العظيمة التي لا يطيق عقله إدراك عمقها وأهمية القضايا الاجتماعية التي تشمل عليها، فمسخها وجعلها مجرد كلام سطحي بسيط يقصد به إيجاد مقابلة استبدادية بين الأديان الثلاثة، المسيحي والإسلامي واليهودي، فقال: «فالدين المسيحي دين تصوري لا ينفع الدنيا لانفصاله عنها ولا الآخرة لعدم حاجتها إليه، وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو مادي صرف، أما الدين الإسلامي «فمدرحي» إذا صحّ النحت والتركيب، أي مادي وروحي معاً».
وليس غير الجهّال الذين أعطيت لهم حكمة خفيت عن الحكماء يفهمون ما هو محصّل هذا الكلام الاعتباطي، فإذا كان الدين الإسلامي مادياً وروحياً معاً فالدين اليهودي أيضاً كذلك وكذلك الدين المسيحي. فكل دين من هذه الأديان، بل كل دين على الإطلاق، يزعم أنه جمع شؤون الروح والجسد، وهذا لا يعني شيئاً جديداً في الدين والاجتماع إلا أن رشيد الخوري خصّ الإسلام به من دون المسيحية والموسوية ليوهم الغوغاء وناقصي العلم أنه عالم بهذه «الأديان» وأن له نظرة فيها لها طابع فلسفي. وهذا التقليد أقبح من تقليد السعدان للنجار الذي أدخل إسفيناً في خشبة، فشقّها وترك الإسفين فيها، فجاء القرد يقلده، فركب على الخشبة فتدلى، ذنبه في شق الخشبة، فرفع الإسفين ليقلد النجار فأطبقت الخشبة على ذنبه!
هاني بعل
للبحث استئناف

بين الهوس والتدين

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (28)، 15/9/1941م

رأينا مما أثبتناه في الحلقة السابقة أن القول في خلاف المسيحية والإسلام وتفضيل هذا الدين على ذلك ليس مجرد قول يقوله أحمق، بل اعتقادات شاعت في أوساط واسعة بين المسلمين والمسيحيين. وقد ذكرنا الشائعات في الأوساط الإسلامية لأن في هذه الأوساط تنتشر حركة هذا التفكير الرجعي الذي يغذيه عدد من المفكرين المسلمين الذين خلطوا الوطنية والقومية بالدين. وسنأتي، في سياق البحث، على ما وقفنا عليه من الشائعات في الأوساط المسيحية. وكون هذه المعتقدات الخاطئة ذات جذور في أوساط واسعة، ولها شبه مدرسة فكرية كان في طليعة أساتذتها السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا والسيد محمد كرد علي، ومن تلامذتها المجلّين السيد شكيب أرسلان وغيره الذين يرون الرجوع إلى الدولة الدينية ويرون أن الوطنية هي النعرة الدينية عينها، يبرر كل التبرير الأهمية التي أعطيناها لحارضة رشيد سليم الخوري التي ليست في الحقيقة سوى فسيفساء أفكار التقطها، على عادته، من بعض الصحف والمجلات أو الكتب ووجد لها مجرى في بعض الأوساط. وهذه الحقيقة تكفي لإفهام الذين أظهروا إشفاقاً على «القروي» أننا لم نهتم هذا الاهتمام إلا لما هو أهم بكثير من كبح جماح مهووس بالخلود والمال.
إذا دققنا أكثر فأكثر في كلام (العروة الوثقى)1 المتعلق بغاية الدين المسيحي وغاية الدين الإسلامي ووقفنا على بُعد تأويله عن الاتجاه الصحيح المؤيد بالشواهد وعن الطريقة الاستقرائية التاريخية، على ما أوضحناه في الحلقات الأخيرة المتقدمة، تبين أنه كلام بُني على روح الحزبية الدينية أكثر كثيراً مما بُني على تدّبر القرآن والإنجيل.
إن القرآن نفسه يعدَّ الإنجيل كلاماً منزلاً، ومحصّل كلام (العروة الوثقى) أنه كتاب يعلّم الخنوع والاستسلام على ما قال الخوري بالاستناد إلى كلامها، فهل يتفق هذا الكلام مع ما فرضه القرآن على المسلمين من الإيمان بقولبه: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم}2. وهل يجوز تصور أن الله أرسل روحه إلى مريم لتلد المسيح ليعلّم الناس الذل والخنوع؟، وهل يتفق مع انطباق التعاليم الإسلامية الروحية على التعاليم المسيحية كل الانطباق كما بيّنا؟ هذا من جهة تدبّر القرآن، أما من جهة تدبّر الإنجيل فهل ينطبق الكلام المذكور على نص الإنجيل الصريح؟، وقد رأينا أنه لا ينطبق على نص الإنجيل وغرض التعليم المسيحي، كما أوضحناه بالشواهد الكثيرة، ورأينا أيضاً أنه لا ينطبق على الشواهد القرآنية العديدة التي أثبتناها في هذا البحث، ولكن تقرير هذه الحقيقة لا يعني أنه كلام غير مستند إلى بعض الآيات القرآنية وبعض تقاليد صدر الإسلام من غير تدبّر لكل ذلك كما يجب، ومن غير فهم للقواعد الاجتماعية ــــ الاقتصادية التي هي أهم من العقائد الدينية في تعيين اتجاه المجتمعات الإنسانية وتقرير مصيرها، والتي هي سبب نشوء الأمم والقوميات، ومن غير فهم لمجرى التاريخ ومن غير فهم لحقيقة الدين على الإطلاق وغير معرفة بمحله من التطور الإنساني.
الرجعة هي مذهب الرجوع إلى حال سابقة، وعندما أطلقنا على الكاتبين الكبيرين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده نعت الرجعة لم نكن ملقين الكلام اعتباطاً، بل عنينا أنهما رجعيان بكل ما في هذه الكلمة من المعنى، لأنهما قصدا وناديا بالرجوع إلى عهد الدولة الدينية وتأسيس الدولة على الدين. فلم يعتبرا بالأحداث التاريخية العظمى التي كانت دروساً خطيرةً تنقض الشي الكثير من الاعتقادات القديمة في ما هو غرض الدين وغرض الدولة وطبيعة كل منهما، وظلا يعتقدان أن ذهاب دولة الدين لم يكن إلا لأسباب عارضة أو نسبية أو لضعف الأديان غير الإسلامية، فعلّلا تقهقر الدولة الدينية الإسلامية بضعف الإيمان أو نسيان الوعد أو بتقصير المسلمين عن الأخذ بإنماء العلوم أو بشغل أفكار عامتهم بالمغالبات الداخلية بين أمرائهم، أو غير ذلك من الأسباب الواهية المقصرة عن إدراك العوامل الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والنفسية في التطور الإنساني. وهذه العوامل هي التي لها الغلبة في الأخير. والظاهر أنهما لم يكونا على اطلاع في ذلك ولهذا السبب أو لسبب غيره كغلبة التربية الدينية المذهبية عليهما قالا: «إن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم»1، والصحيح هو غير ذلك. وقد ظن المسيحيون أيضاً من قبل أن جنسيتهم في دينهم ولكن الواقع نقض هذا الظن ليس فقط في المسيحية، بل في الإسلام أيضاً وفي كل دين آخر. ومن أراد درس هذا الموضوع فعليه بكتاب (نشوء الأمم) تأليف سعاده، وهو كتاب في علم الاجتماع جمع أحدث الحقائق العلمية في تطور الإنسانية وأقوامها وقدّم نظريات جديدة غاية في الأهمية، وللزعيم أيضاً محاضرة في مبادىءالتربية القومية الأساسية (انظر ج 1 ص 381) عرض فيها لأسباب سقوط الجامعة الدينية في المسيحية والإسلام.
والغفلة عن التضارب الأساسي، الجوهري بين مبادىء«الجنسية الدينية» ومبادىء«الجنسية الاجتماعية» التي ظهرت بالمظهر الذي أطلق عليه اسم «القومية»، هي ما جعل كاتبي (العروة الوثقى) يعجبان «كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي (المسيحية)» (انظر مقالة «النصرانية والإسلام وأهلهما»1). فعجبهما الذي أعلناه لا يدل إلا على عدم تدبرهما أمر الدين المسيحي كما بيّنا، وعدم تدبرهما أمر الدين على الإطلاق من وجهة التاريخ الاجتماعي، لا من وجهة تقاليد أحد الأديان، وعلى عدم إدراكهما الفرق بين «الجنسية الدينية» و«الجنسية الاجتماعية». ولو أنهما أدركا الفرق بين هاتين الجنسيتين لزال عجبهما من تقدم الأمم المسيحية ومظاهر الروحية الحزبية فيها التي لا تتضارب مطلقاً مع تعاليم الدين في المسيحية. فالأمم المسيحية ما نهضت إلا بترك مبدأ «الجنسية الدينية» ومبدأ «الدولة الدينية» (التيوكراتية Theocracy ) وبالأخذ بمبدأ «الجنسية الاجتماعية» ومبدأ «الدولة القومية» من غير أن يعني ذلك التخلي عن تعاليم دينها المناقبية التي توثق أواصر وحدتها الداخلية وتجعل كل أمة منها يداً واحدةً في طلب الفلاح. والأمم الإسلامية لا تزال متأخرة، لأنها لمّا تجتز طور العمل بمبدأ «الجنسية الدينية»، وهي ما دامت متمسكة بهذا المبدأ الذي لا يتفق مع الواقع الاجتماعي فلا أمل لها بمجاراة الأمم المسيحية التي تقدمت باسم الجامعة القومية المنفصلة عن الدين، من غير أن يتخلى أي مؤمن عن دينه وتعاليمه.
إن خروج المجاميع الإسلامية إلى العمل بمبدأ «الجنسية الاجتماعية» بدلاً من مبدأ «الجنسية الدينية» قد يبدو أمراً صعباً جداً دونه ما هو أشق من خرط القتاد. أما أنه صعب وشاق فقد كان صعباً وشاقاً للمجاميع المسيحية أيضاً، بل إنه كان أصعب وأشق لأنه لم يكن لهذه المجاميع مثل تقتدي به. والمجاميع الإسلامية ترى الآن مثل الأمم الناهضة وتجد أمامها الأمم الراقية والاختراعات والفنون التي تسهّل لها ما لم يكن سهلاً للمجاميع التي تقدمتها، ومع ذلك فللمجاميع الإسلامية صعوبة من نوع آخر داخلي، من قواعد الدين، فلا يكاد مفكر إسلامي يجهر بفكر جديدة تنطبق على أصول التطور الاجتماعي حتى يهبّ زعماء الدين ينعتونه بالكفر والزندقة. وقد جرى مثل ذلك عند المسيحيين من قبل. فرؤساء الدين والمتمسكون بمبدأ «الجنسية الدينية» من المسلمين يقولون إن العمل بمبدأ «الجنسية الاجتماعية» يهدّ أركان الدين. وهم يحتجون بأن غرض الإسلام هو أن يرث المسلمون، الذين هم «العباد الصالحون» الذين يعنيهم القرآن، الأرض كلها من غير المسلمين وأن من الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملّتهم بالميل إلى التغلب على سواهم، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }1. ويحتجون أيضاً بأن معظم أحكام دينهم موقوف إجراؤه على قوة الولاية الشرعية التي توازي السلطة الزمنية عند المسيحيين. وجميع هذه الحجج مسندة إلى آيات قرآنية وإلى السيرة المحمدية.
بناءً على هذه الحجج يحارب الرجعيون المسلمون النهضة السورية القومية القائلة إن لا نهضة للأمة السورية إلا بأخذ بمبدأ «الجنسية الاجتماعية» بدلاً من «الجنسية الدينية». وبناءً على مثل هذه الحجج يحارب الرجعيون المسيحيون هذه النهضة القومية (راجع خطاب البطريريك الماروني سنة 1937م وردّ الزعيم عليه) (انظر ج 2 ص 339).
هنا لا بد من إلقاء سؤال يفتح أمامنا باب القضية في صلبها وهو: أصحيح أن الدين الإسلامي لا يتم إلا بإعلائه على الأديان الأخرى وبيع المسلمين أنفسهم حتى يتم انتصار الإسلام ويعم العالم؟ وأن هذا هو غرضه الأساسي؟
هذا ما يظهر أن الذين فهموا الدين فهماً أولياً في حالات نشأته يعتقدون أنه الصحيح الذي لا جدال فيه، وهذا أيضاً ما ذهب إليه إمامان كبيران كالسيد الأفغاني والشيخ محمد عبده، مع العلم أنهما كانا يُحسبان من طلاب الإصلاح في الدين، وأنه كان لهما مناوئون في مقصدهما الإصلاحي الذي لم يبلغ إلى ما بلغه كاتب آخر هو [عبد الرحمن] الكواكبي الذي كان من المؤسف أن صيته لم يذهب ذهاب صيتهما. ولا نريد أن نتوسع كثيراً في هذه الشروح الآن ولا نعرض لتفاصيل مذاهب السُنَّة والشيعة والمتصوفة وغيرها في ذلك، بل نذهب رأساً إلى اعتماد الأساس وهو القرآن، كما اعتمدنا الإنجيل أساساً في كلامنا على المسيحية، وإلى فهم عوامل نشأة الدين الإسلامي وتطوره في بيئته التي هي العُربة، من غير الدخول في التفاصيل الثانوية وشروحها في المدارس الأربعة: أبي حنيفة، مالك بن أنس، محمد بن إدريس الشافعي، أحمد بن حنبل.
وقبل أن نبدأ بدرس صحة الاعتقاد المذكور آنفاً وفساده نريد أن نظهر مبلغ خطر النتيجة الحاصلة منه على النهضة القومية في سورية والأقطار العربية فنلقي هذا السؤال: إلى أين يقودنا الاعتقاد بأن صحة الديانة الإسلامية هي في محاربة أهل الأديان الأخرى حتى يدينوا بها أو يخضعوا للمسلمين، وبأن الدين المسيحي دين يعلّم أتباعه الخضوع لكل سلطان أجنبي يحكمهم؟
أإلى شي آخر غير الانشقاق الداخلي وإفناء التعاليم الدينية السامية في قتال لا نهاية له؟
إن هذا الاعتقاد الذي سنبين فساد القسم الأول منه في ما يلي، كما بيّنا فساد القسم الثاني في ما تقدم والاعتقاد الذي يقابله عند مسيحي سورية، هما وحدهما العقبة الكؤود في طريق نهضة الأمة السورية القومية. ولا شك في أن نهضة الأقطار العربية جملة، أو بقاءها في خمولها، تتوقف على نتيجة الصراع حول هذا الاعتقاد. ولما كنا قد بدأنا بتفنيد الاعتقادات الرجعية في الأوساط الإسلامية فسنتابع ذلك قبل الانتقال إلى الاعتقادات المسيحية في هذا الباب.
ولا بد لنا من العطف على ما بيّناه من فساد الاجتهاد القائل بأن الدين المسيحي يقول بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين به بإظهار مضاره الاجتماعية والقومية فهو تعليم مغرض وخيم العواقب:
في الدرجة الأولى تأتي النتائج الاجتماعية الوبيلة التي يمكن أن تُجمع في كلمتي: البغض والعداوة بين المسلمين والمسيحيين في الأمة الواحدة. فالمسيحيون يبغضون المسلمين، اجتماعياً، لأنهم يشعرون بمحاولة تحقيرهم بهذا الاعتقاد الفاسد. والمسلمون يبغضون المسيحيين، اجتماعياً، لأن هذا الاجتهاد الباطل يجعلهم يعتقدون أن المسيحي لا يمكنه أن يكون قومياً صحيحاً ووطنياً صادقاً، لأن تعاليم دينه، حسبما شرحها لهم الاجتهاد الفاسد، تمنعه من ذلك وتوجب عليه إباحة عرضه، فتستحكم العداوة باستحكام الاعتقادات الباطلة. والعداوة يستغلها الأجنبي المتيقظ لقوميته ومصالحها والنتيجة الأكيدة هي العبودية الحتمية التي يشترك المسلمون والمسيحيون في جريمة دفع بعضهم بعضاً إليها. وما هو السبب؟
السبب هو الاعتقادات الفاسدة والاجتهادات المغرضة من الفريقين، المبنية بدورها على اعتقادات دينية واجتهادات فقهية أو لاهوتية هي أيضاً فاسدة أو لا موجب حتمي لها من الوجهة الاجتماعية ــــ الدينية، كما سنبينه.
وهذه الوجهة القومية ــــ الاجتماعية هي أعظم الدوافع التي دفعت كاتب هذا البحث إلى تناول الموضوع ومعالجته بهذه الصراحة الكلية، ولقد قال محمد قولاً نطلب من جميع متتبعي هذا الموضوع الخطير أن يجعلوه نصب أعينهم، لأن فيه حكمة اجتماعية تسهل الشي الكثير من الصعوبات. وقوله هو: «لو تكاشفتم لما تراقبتم». وإننا نقول لجميع السوريين، مسلمين ومسيحيين: يجب عليكم أن تتكاشفوا فتعلم كل فئة ما تضمر لها الفئة الأخرى بكل ما فيه من جميل وقبيح، فإذا تكاشفتم فهو أول الطريق إلى إصلاح حالكم وإقالة عثاركم، وحلّ كل قضية يتطلب معرفة جميع أضلاعها وإلا كان حلاً فاسداً لا يثبت.
والآن نعود إلى حجج الجانب الإسلامي الرجعية التي أثارت كل هذا البحث المسهب، ولكي يكون البحث مفيداً يجب أن يكون مصنفاً وواضحاً في ترتيب متناسق، ولذلك نبدأ بالتصنيف الأساسي فنقول إن الإسلام من حيث هو عقيدة وملّة يقسم إلى قسمين: الأول هو الإسلام كدين، والثاني هو الإسلام كنظام اجتماعي ودولة.
فالإسلام من حيث هو دين يرمي إلى ثلاثة أغراض أخيرة:
1) إحلال الاعتقاد بالله الواحد محل عبادة الأصنام.
2) فرض عمل الخير وتجنب الشر.
3) تقرير خلود النفس والثواب والعقاب (الحشر).
على هذه الأغراض الأخيرة قام الإسلام كدين فهي أساس دعوة محمد وصلبها، وما تبقى فهو الأمور الشكلية التي تُتخذ وسائل لبلوغ هذه الأغراض وهي أيضاً جوهرية ولكن أهميتها نسبية من الوجه الدينية البحتة، ولكي نقتنع بأن هذه الأغراض لا تتم إلا بواسطة الديانة الإسلامية وحدها يجب علينا أن نقتنع بأن الإسلام هو الذي جاء بها وأنه هو أساسها فهل نتحقق ذلك من الوجهة التاريخية؟
إننا نتحقق العكس تماماً بشهادة الكلام القرآني نفسه الذي عزاه محمد إلى الله ، فكون الله واحداً، غير منظور، يرى كل شي قادراً على كل شي هي فكرة حملها اليهود أولاً واتخذوها عقيدة، وكذلك فكرة البعث والثواب والعقاب، وفرض عمل الخير والابتعاد عن الشر. ولكن اليهود الذين كانوا في حالة أولية وظروف خصوصية فهموا الله ووحدانيته بطريقة أولية فجعلوه أشبه شي بطوطم (Totem) أو صنم حي، غير منظور، خاص بالقبيلة الإسرائيلية التي يظهر أنه لم يكن لها طوطم أو إله خاص يرمز إلى شخصيتها، فرأوا أن تكون فكرة الله طوطمهم الخاص بهم الرامز إلى شخصيتهم أسوة بالقبائل أو الشعوب الأخرى التي احتكوا بها، ووجدوا أن الطوطمية قد تحولت عندها إلى تقديس أصنام بشرية الهيئة أو ممتزجة، وهو خطوة فوق طوطمية الحيوانات والنباتات والمادة (الطوطمية ميل نشأ عند الشعوب الفطرية لعد حيوان ما، كلب أو بقرة أو ذئب، مثلاً، أو نبات ما سنديانة أو أرزة، مثلاً، أو مادة ما، صخر أو جبل، ممثلاً، شخصية القبيلة ورامزاً لنفسيتها فيكون مقدساً عندها). انظر كتاب (نشوء الأمم). (أنظر ج3 ص 76).
رأى اليهود أن فكرة إله حي يرى ويفكر ويخلق تقوّي معنوياتهم وترهب أعداءهم لما فيها من هيبة الخفاء وقوة الحياة تجاه جمود الأصنام، فضلاً عن الضرورة الداخلية للالتجاء إلى سلطان يؤيد التشريع والحكم.
ولكن الله لم يكن عندهم أرقى كثيراً من الأصنام فكانت عبادتهم له واتصالهم به أشبه بعبادة الوثنيين الأصنام واتصالهم بها. فكانوا يشاورونه في حروبهم كما كان الوثنيون يشاورون آلهتهم في حروبهم وكان الله خاصاً بهم كما كان لكل شعب أو أمة أو قبيلة إله خاص به. فهو لهم «إله إسرائيل» أو «إله يعقوب ونسله» وهما واحد. وكما كان الصنم يحارب عن عباده أو يشير عليهم بالحرب أو السلم كذلك كان يهوه يحارب عن اليهود أو يشير عليهم بالحرب أو السلم، حسبما يرى أنه موافق مصلحة اليهود، لأنه إلهم وحدهم من دون الناس. وعلى هذه الكيفية لم تكن مرتبته أعلى كثيراً من مرتبة صنم، ووظيفته لم تكن أرقى كثيراً من وظيفة صنم. هو الذي «وساق مثل الغنم شعبه [وقادهم مثل قطيع في البرية وطرد الأمم من قدامهم»1.
ولم ترتِقِ فكرة الله عن فكرة الأصنام إلا بتعليم المسيح. فقد نسخ المسيح فكرة كون الله مختصاً بشعب دون شعب يحارب حروبه ضد الشعوب الأخرى. فصار الله في المسيحية إله جميع البشر على السواء لا يفرق بين سوري وهندي وإغريقي. ورفض المسيح أن يكون من نسل «الشعب المختار» من صلب داود ولم يبقَ في المسيحية من فضل لإنسان على إنسان إلا بالعمل بالرحمة في المجتمع والعدل في الحكم.
وفي المسيحية واليهودية على السواء فرض عمل الخير وتجنب الشر وخلود النفس والثواب والعقاب. ولكن المسيحية واليهودية اختلفتا في الخير العام فجعله اليهود مقتصراً على بني إسرائيل وأطلقته المسيحية ليشمل جميع الأمم. وبناً عليه خرجت اليهودية من الاعتبار كدين إنساني عام. وبقي اليهود في العالم الحلقة الموجودة بين الآلهة الشعوبية والإله الإنساني العام. ولكنها لم تخرج من غرض فكرة وحدانية الله وغرض فعل الخير وتجنب الشر. وإذا أخرجنا اليهودية من غرض الخير الإنساني العام فلا يمكننا إخراج المسيحية منه فإنها أساسه وفكرة خلود النفس والثواب والعقاب فيها هي فكرة واضحة ملازمة لجميع تعاليمها. فتحقيق أغراض الإسلام النهائية المذكورة آنفاً لا يكون، في الحقيقة، سوى تحقيق أغراض المسيحية عينها التي تقدمته. فالأغراض الدينية الأخيرة، إذن، ليست أغراض الإسلام وحده، فلماذا لا يمكن أن تتمّ إلا به ولماذا لا يمكن عدّها، كما هي بالفعل، مشترك بين المسيحية والإسلام تامة بوجود الدينين وبانتشارهما كل في البيئات الأكثر موافقة لتعاليمه وقبولاً لها؟
هذا السؤال يفتح مسألة النصوص القرآنية التي قلنا إن أكثر المهيمنين على الجماعات الإسلامية لا يتدبرونها أو لا يريدون أن يتدبروها، إلا وفاقاً لفكرة جامدة أوجدتها تقاليد صدر الإسلام وفتوحاته، وأكثرها مستمد من نصوص القسم الثاني من الإسلام كدولة. وإلى هذه النصوص يلجأ جميع الذين يريدون إقامة القومية على الدين كمدرسة التفكير التي أسسها السيد الأفغاني والشيخ محمد عبده.
هل يعني ذلك أن نص الرسالة القرآنية على نوعين؟
الجواب العلمي (وليس الديني) على هذا السؤال هو: نعم، إن النصوص القرآنية على نوعين ويجب أن تدرس من وجهتي الدين والدولة. وبهذه الطريقة فقط يمكن فهم الإسلام فهماً صحيحاً من الوجهة التاريخية، وبهذه الطريقة فقط يمكن الاستفادة من مرونة الإسلام لمنع جموده وتحجره كما تحجرت اليهودية.
وبهذه الطريقة يوضع حد لمشعوذي الدين فلا يستشهدون بآيات القسم الديني في غرض الدولة وبآيات القسم الدولي في غرض الدين فتتضارب أغراض الإسلام من دين ودولة كما هو حادث إلى اليوم وتضطرب سكينة المؤمنين المسلمين، الذين يجدون أنفسهم مسوقين أحياناً لتضحية بعض آيات الدين في سبيل إقامة بعض آيات الدولة، وهو الأكثر ضرراً، وأحياناً لتضحية بعض آيات الدولة في سبيل بعض آيات الدين، من غير معرفة صحيحة لما هو الواجب حسب حقيقة الدين.
هذا التحليل لا يوافق هوى الذين يريدون أن تظل عامة المسلمين جاهلة هذه الحقائق ليتمكنوا من تسييرها وفاقاً لرغائبهم الخصوصية، كما لم يوافق تحليل مسائل الدين المسيحي هوى الذين أرادوا إبقاء عامة المسيحيين جاهلة حقائق تفسد أغراضهم، فترى الرجعيين وتسمعهم يصيحون: إن هذا إلا كلام يقصد به «نقض بناء الملّة الإسلامية وتمزيقها شيعاً وأحزاباً» كما قال صاحبا (العروة الوثقى). ولكننا نقول إن معرفة الحقائق هي طريق ارتقاء الأمم الوحيدة من جميع الأديان.
هاني بعل
للبحث استئناف

أغراض الدين واختلاف الأديان

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (29)، 1/10/1941م

إن نصوص الإسلام كدين تقول إن الدين لم يبتدىء بمحمد، بل بإبراهيم، جرياً على تقاليد اليهود، وإن الوحي نزّل على محمد لتأييد الكتب السابقة (التوراة والإنجيل)، ولتذكير الناس الذين جاءتهم الكتب ولإنذار الذين لم يأتهم قبل محمد من نذير. فكشّف الدين للمرة الأولى مقصود به الآخرون، أي الذين لم يأتهم نذير قبل محمد، أما أهل الكتاب فقد نزل القرآن مصدقاً لما معهم، فلا خلاف في أنه الدين أو أنه والقرآن دين واحد ورسالة واحدة.
ليس ما قررناه في الفقرة المتقدمة مجرد تأويل لبعض آيات قرآنية التقطت التقاطاً، كما جرى ويجري لكتّاب كثيرين مسلمين ومسيحيين يكتفون بسماع قول أو آية واحدة أو بضع آيات من القرآن أو الإنجيل ليؤولوا الدين الإسلامي أو المسيحي كله على ما يستنتجون منها، من غير معرفة بحقيقتها، بل هو نتيجة درس علمي استقرائي لنشأة الرسالة الإسلامية وتطورها وتدبّر لما ورد من الآي في هذا الباب في جميع سور القرآن من أول سورة إلى آخر سورة.
ولا بد من الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن درس القرآن ليس بالشي الهين، وكثير من المقبلين على قراءته يضلون فيه لسبب عدم وجود أي تنظيم موضوعي أو حادثي في ترتيب سوره وآياته، فقد ذكرنا في حلقة متقدمة أن الذين جمعوا القرآن رتبوا السور المدنية أولاً نظراً لأهميتها الشرعية، على أن ذلك ليس كاملاً في الصحة، أي أنه إذا كانت العناية وجهت إلى أحكام الشرع، قبل كل شي، فإنه لم تجرِ أية محافظة على هذه القاعدة، فالسور التشريعية لا تأتي متعاقبة. هذا والسور عينها لا محافظة في كل منها على موضوع واحد، بل تأتي في السورة الواحدة عدة مواضيع فمنها الذكر ومنها القصص ومنها التشريع المقتضب. وينقطع التشريع في الموضوع الواحد أو يتم في إحدى السوَر فيظن القارى أن الموضوع قد كمل وأن الغاية قد تمت فإذا في سورة أخرى عودة إلى معالجة الموضوع عينه وإذا هنالك تعديل أو زيادة لما ورد قبل.
وقد تبيّن أن الطريقة التي اتبعت في جمع سوَر القرآن وترتيبها هي طريقة اختيار الطول والقصر فالسوَر الطوال تأتي أولاً وتليها الأقل طولاً ثم الأقصر، إلى الغاية في القصر من غير محافظة على الدقة الكلية في ذلك فإذا كان الفرق آيات قليلة فلا لزوم للتقديم والتأخير. وقد وضعت سورة الفاتحة في أول القرآن لأن النبي عدّها فاتحة الكتاب فسميت «أم القرآن». وتأتي بعد الفاتحة التي هي نوع من الصلاة والتسبيح سورة البقرة وآيها (286) وتليها سورة آل عمران وآيها (200) ثم تليها سورة النساء وآيها (176) وهكذا دواليك. ومن أراد أن يدرس القرآن درساً علمياً على هذه الطريقة لا يصل إلى نتيجة صحيحة، فيحتاج إلى درس التواريخ وكتب السيرة ويضطر لترتيب القرآن ترتيباً جديداً على النسق الحادثي أو التعاقبي الذي يُعرف به أية سورة هي السابقة في الوحي، وأية هي اللاحقة. فيعرف كيف نزل القرآن والحالات التي نزلت فيها كل سورة. فيتتبع تطور الرسالة بتطور حالاتها ويفهم علاقة استنزال الآيات بالحالات والحوادث الجارية، وينتهي إلى فهم حقيقة المقصود من آيات إذا جُردت عن الحالات والحوادث ظهرت متضاربة أو غير منطقية، كما ظهر من تجريد السيد [جمال الدين] الأفغاني والشيخ محمد عبده أي «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»1 الإنجيلية من الحالة والحادث اللذين قيلت فيهما، فبدت غير منطقية ولكن حين درسنا هذه الآية ووضعناها في محلها ظهر لنا بجلاء أنها على العكس تماماً مما فهمه منها الكاتبان المذكوران اللذان لم يكلّفا أنفسهما مشقة مراجعة الإنجيل وفحص حقيقة أمر هذه الآية وفي أي موقف قيلت. وكما جرى لهذين الكاتبين وغيرهما من إساءة فهم الآي الإنجيلية بسبب عدم درس علاقة الحوادث والحالات بالآيات، كذلك جرى ويجري لهما ولغيرهما في الكلام على الآي القرآنية من غير قرن كل آية بالحادث أو الحالة الذي استنزلت فيه.
قد رأينا كيف أسيء فهم بعض الآيات المسيحية، فلنرَ كيف أسيء ويمكن إساءة فهم بعض الآيات الإسلامية فنأخذ مثلاً هذه الآية: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى زيد منها وَطَراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً}2. فإن من يقرأها لأول مرة ومن غير علم بما دار عليه كلامها يكاد لا يفهم لها محصّلاً ثابتاً لنفسه. والقسم الأخير الشرعي منها إذا قصد منه جواز الاقتران بمطلقة مسلمة فالحكم وارد بصورة واضحة في سورة البقرة وغيرها من السّور ولكن المسألة تصبح واضحة تماماً بعد معرفة الحادث المختصة به الآية، وهو أن محمداً كان قد عتق زيد بن حارثة وكان زيد قد تزوج امرأة اسمها زينب «فأبصرها محمد، بعدما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال: «سبحان الله مقلّب القلوب» وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها»3 فطلقها لكي لا يكون حاجزاً بينها وبين ولي نعمته فاتخذها محمد زوجة من غير واسطة عقد بسبب أن الآية نزلت فيها. فكان ذلك حادثاً يقتضي نظرة خاصة نظراً للعلاقة وصلة المنزلة بين السيد والمولى أو الدعيّ وكان حدوثه وسيلة لنزول الآية التي أباحت للمؤمنين اتخاذ نساء أدعيائهم {إذا قضوا منهن وطراً}1. هذا مثل في التشريع والأمثلة في الإرشاد والوعظ والوعد والوعيد كثيرة وكلها تؤيد أن الاستدلال على معنى الآيات، مسيحية كانت أم إسلامية، بصورة استبدادية ومن غير رجوع إلى موضع الآية وموضوعها والحال أو الحادث الذي نزلت فيه هو أمر كثيراً ما يفضي إلى غير أو عكس المقصود من الآيات الدينية التي منها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد فيجب فهم كل ذلك بدقة لإصابة المعنى الحقيقي والغرض المقصود من الآيات.
ولذلك نعود فنقول إن فهم كون النص القرآني على نوعين: في الدين وفي الدولة، يقتضي تدبراً لا يمكن أن يحصل من الابتداء بدرس القرآن حسب ترتيبه، أي بالابتداء بالفاتحة ثم بالبقرة فبآل عمران فبالنساء فبالمائدة إلخ. فإن هذا الترتيب بعيد عن إعطاء القارى صورة صحيحة للرسالة الإسلامية والمواضيع المحلية والعامة التي عالجتها. والصواب أن يُبتدأ بسورة العلق فبالقلم فبالمزمل فبالمدثر، إلخ. حسب تعاقب السور كما أعلنها النبي وليس حسب ترتيب السوَر الاستبدادي في القرآن. فإن أول سورة نزلت هي العلق وليست الفاتحة وثاني سورة نزلت هي القلم وليست البقرة وهكذا على التوالي.
والآن نعود إلى متابعة ما بدأناه في هذه الحلقة في ما يثبته النص القرآني لما هو الدين. فإن بداءة الرسالة الإسلامية لم ترمِ في الأصل إلى غير الأغراض الدينية الثلاثة التي عددناها في الحلقة السابقة ولم يكن فيها شي يشتمّ منه رائحة التفريق أو التمييز بين رسالة محمد ورسالات الأنبياء السابقين، من عهد نوح وإبراهيم، الذي ظهر في أواخر الرسالة بقوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}2 . وهو من شؤون الإسلام كدولة أكثر كثيراً مما هو من شؤون الإسلام كدين أو هو من الشؤون الدينية المقصود بها معالجة الحالة السياسية الداخلية في العُربة، ليس مقصوداً بها إقامة الأغراض الدينية الصافية أو الأغراض الدينية ــــ الاجتماعية الصحيحة التي عددناها في الحلقة السابقة، لأن الأغراض الدينية الصحيحة هي عينها في الإسلام وفي المسيحية وفي اليهودية، إلا أن هذه الأخيرة خرجت من مبدأ الخير العام فقط.
قلنا آنفاً إن نصوص الإسلام كدين تقول إن الدين (أي الدين الصحيح) لم يبتدى بمحمد، بل بإبراهيم، وقد ذهبت هذه النصوص إلى أكثر من ذلك فقالت إن الإسلام نفسه لم يبتدى بمحمد، بل بإبراهيم {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}3. {ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل}4. وهذا الكلام هو نهج السوَر المكية التي فيها أساس الدين وجوهر أغراضه وإن تكن الأخيرة مدنية. ومن نهج السوَر المكية قوله: {إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة (البلد الحرام) الذي حرمها وله كل شي وأُمرت أن أكون من المسلمين}1.
مما لا شك فيه أنه يهمّ كل دارس عالم محقق معرفة أول كلام فاه به محمد في تأدية رسالته، لأن الكلام الأول هو إعلان الرسالة وعنوانها ومبدأها، وما يأتي بعد يكون تابعاً له ومؤيداً إياه ومكملاً لغرضه، فهو الأساس وما يأتي بعد هو البناء الذي لا يحيد ولا ينحرف لئلا يسقط. فماذا كان أول شي أعلنه محمد للذين اقتربوا منه؟ ما هو الإلهام الذي حلّ عليه والنور الذي أبصره؟ ما هي الدعوة وإلى أي شي هي؟
هذه الأسئلة وغيرها تدغدغ مخيلة كل مفكر عميق يريد أن يعرف بداءة الفكرة ومنتهاها ويحيط بتطوراتها وتفاصيلها ليحصل له الفهم الكامل لها وبدون هذه المعرفة وهذه الإحاطة يكون فهم الرسالة جزئياً مبعثراً أو متضارباً وهو ما يوقع في الهوس المنحرف الذي لا يفتأ يصطدم بما حوله، فماذا كان أول ما أعلنه محمد من الوحي؟
كان سورة العلق وهي تسع عشرة أي قصيرة هذا نصها: {بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذّب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فَلْيَدْعُ ناديه سندعُ الزبانية كلا لا تُطعهُ واسجد واقترب}2.
ومن درسنا هذه السورة نرى أنها اشتملت على الأمور الآتية:
1) ذكر اسم الله ونعوت له.
2) القول بالمعاد أو الحشر.
3) إنذار المكذّب الناهي عن الصلاة بسوء العاقبة.
ويجد الدارس في هذه السورة طابع القرآن الذي لازمه حتى آخر سورة. ومن مقابلته على التوراة والإنجيل يتضح أنه أشبه شي بالمزامير في التوراة منه بأي قسم آخر. فهو شعري ترتيلي أكثر مما هو تعليمي أو إخباري. والقصص فيه، كما في المزامير، أخبار قليلة مقتصرة على ما يفيد عبرة أو مغزى ولا تتناول فلسفة الخليقة وتعليلها ذلك أن القرآن يعد هذه الفلسفة موجودة في الكتب السابقة التي جاء مصدقاً لها. ولذلك اتصف القرآن بالحضّ والتهويل. وإذا ذكر كيفية الخلق ذكرها بصورة شعرية مقصود منها التأثير على السامع أكثر من تعيين كيفية الخلق أو كيفية حدوثه بصورة ثابتة من باب سرد الواقع. وهذا الأسلوب واضح في السورة الأولى بقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم}1 فقوله: «خلق الإنسان من علق وعلّم بالقلم» مقصود منه تصوير عظمة الخالق وقدرته تصويراً شعرياً يؤثر في الشعور أكثر مما هو مقصود منه إعطاء تعليل فلسفي لكيفية الخلق أو كيفية التعليم. فالله ، من الوجهة الدينية، علّم بالقلم وبغير القلم وخلق من علق ومن غير علق، كما يعود القرآن فيذكر في السورة التالية. ولكن قوله: «من علق وبالقلم» هو من لوازم السجع والتصور الشعري أكثر مما هو من باب البيان الفلسفي المنطقي. وكذلك قوله: {لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة}2 فهو من باب التصوير الشعري لحالة المذنب وذلّه إذ يُجرّ من ناصيته إلى العذاب وليس تقريراً لكيفية سوق المذنب إلى جهنم على وجه التحقيق، أيكون ذلك بالقبض على الناصية أو بربط اليدين أو بطريقة أخرى.
والسورة الثانية (القلم) لا تشتمل سوى على تحذير من المكذبين ووعيد العذاب ووعد بالأجر. والثالثة (المزمل) فيها أول تعظيم لله وقدرته بصورة بارزة وأول إنذار {والمكذبين أولي النعمة}3 بالعذاب وأول ذكر {للجحيم}4 وفيها تعيين صفة القرآن بقوله في الآية الرابعة {ورتِّل القرآن ترتيلاً}5 وفي هذه السورة تعيين أن محمداً مرسل إلى «المكذبين أولي النعمة» وهم صناديد قريش المهيمنون على القبائل العربية كما كان موسى مرسلاً إلى فرعون. والآية تقول: {إنّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم. كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً}6. وذكر موسى وفرعون في هذه السورة قبل ذكر الأخبار التاريخية المتعلقة بالحادث الذي ترويه التوراة يفترض أن الأخبار معروفة مما جاء في التوراة. وفي هذه السورة أول ذكر لاحتمال وجود {آخرون يقاتلون في سبيل الله}7 من غير دعوة إلى القتال أو تحريض عليه. فيختفي ذكر القتال من السوَر في المدة المكية. وهي ثلاث عشرة سنة. وقال البعض إن المدة المكية عشر سنوات فقط. والمرجح الأول. وتأتي بعد المزمل سور كثيرة كلها ترتيل وتسبيح كالفاتحة أو المدّثر التي تأتي قبلها وفيها {يا أيها المدّثر. قم فأنذر. وربك فكبّر.. فإذا نقر في الناقور. فذلك يومئذٍ يوم عسير…}8.
وقد رأينا في السورة الثانية ذِكر موسى وفرعون. وإننا نرى في السورة الثامنة (الأعلى) ذكر {الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى}1 وهو يدل على الاتصال بالتوراة أولاً قبل الاتصال بالإنجيل. فذِكر المسيح يأتي في سورة متأخرة. وأول إشارة إلى أخذ العلم به هي في (الجن) بقوله: {وأنه تعالى جدُّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً}2 . ولا ذكر غير ذلك للمسيح ورسالته. ومحصّل الآية استنكار أن الله اتخذ امرأة ولدت له ولداً كسُنَّة الرجال المخلوقين وعدم إمكان اعتبار بنوية المسيح لله ، التي يقول بها المسيحيون، إلا حادثاً من تزاوج بيولوجي. وبعد اتصال القرآن بالإنجيل أكثر يتعدل هذا الحكم نوعاً بالقول إن المسيح ولد {من روح الله}3 رأساً.
بعد مرور ثلاث وثلاثين سورة على ابتداء الرسالة المحمدية وكلها سوَر ترتيلية تسبيحية تدعو إلى الإقرار بالله وتنذر «المكذبين»، تبتدى الرسالة تتخذ شكلاً من الدعوة الواضحة في سورة (ق) بقوله: {ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شي عجيب أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد}4 . فواضح أن الكلام موجه إلى جماعة الرسول التي لا تؤمن بالبعث. وهو مؤيد بآيات كثيرة تأتي بعد قوله: {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون}5. وقوله قبل ذلك: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}6. وتتكرر هذه الآية في سورة القمر. وفي سورة الحجر إلى القرآن هو الذكر بقوله: {وقالوا يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون}8. ويزداد غرض الدعوة وضوحاً بقوله في (يونس): {أكان للناس عَجَباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشّر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين}9. وقوله: «الذين آمنوا» لا يقتصر على الذين اتبعوا محمد، بل يتناول الذين آمنوا بالكتب السابقة. وهذا التأكيد مؤيد بآيات من السورة عينها كقوله: {وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكنْ تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}10. وقوله: «ولكل أمة رسول» وقد أثبتناه سابقاً وقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}11. وهذه الآية تقول بالرجوع إلى الكتب المنزلة من قبل (التوراة والإنجيل) للاستشهاد وتأييد صحة كلام القرآن ودعوته إلى الله الحي، وترك عبادة الأصنام، والإيمان بالبعث. ويتلو التأييد التأييد كما في سورة الأنعام بقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة ويؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون}1. وهذا يعني أن الذين آمنوا بالآخرة من قبل في التوراة والإنجيل يؤمنون بالقرآن أيضاً لأنه مصدق لما معهم، ولا يتوجب عليهم تغيير «صلاتهم» أو طرائق دينهم لأن القرآن لا ينقضها. وهو يخاطب الأنبياء قائلاً: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}2. وجميع هذه الآيات وطائفة كبيرة غيرها، منها ما ذكرناه في الحلقات السابقة ومنها ما لم نذكره، يؤيد قولنا إن أغراض الدين الأصلية، وهي التي عددناها في الحلقة السابقة (ص 151 أعلاه)، ليست مما لم يوجد إلا بالقرآن وإن القرآن بالذات يعترف بأن غرض الدين وُجد من قبل بما نزل من الكتب السابقة التي تقدمت القرآن والتي يجب أن يكون القرآن مطابقاً لها ليصح أن يشهد {الذين يقرأون الكتاب}3 بأنه {الحق من ربك}4، أي مطابقاً لها في أساس الدعوة إلى الله وفعل الخير وترك الشر، والإيمان بالآخرة وليس في ما اختلف فيه الناس في صفات الرسل ومنازلهم.
بناءً عليه يصح كل الصحة القول: إن أغراض الدين الأساسية أو الجوهرية التي دعا إليها الإسلام تتم بواسطة الإسلام والمسيحية معاً وإلى حد ما اليهودية أيضاً. والقرآن لا يقول نقيض ذلك، ولكن الرسالة الإسلامية انتقلت من حالة الدعوة إلى الإيمان بها إلى حال الجهاد ضد المشركين الذين قاوموها، وهم عبدة الأوثان الذين وُجهت إليهم الدعوة في الأصل، لإخضاعهم للدين بالقوة، لأن التبشير والإنذار لم يؤثرا فيهم فلم ينتهوا عما كانوا فيه. ولمّا لم تجد الرسالة الإسلامية تأييداً كلياً من اليهود والمسيحيين في العُربة، بل وجدت مقاومة خصوصاً من اليهود صار لا بد من عدهم خصوماً يجب حملهم على الاعتراف بصحة الرسالة والإيمان بها من حيث هي مصدقة لما معهم. وهذا الخلاف هو من الشؤون المذهبية في الدين وليس في أغراض الدين الأساسية التي دعا إليها الإسلام فلا يصح مطلقاً القول إنه بسبب هذا الخلاف انتفى أن {يكون الدين كله لله}5 إلا عن طريق الإسلام بالاحتجاج بآيات مدنية لا يجوز القول إنها نسخت الآي المكيّة، لأنه إذا جاز القول بالنسخ أصبح قسم من الكتاب أو كله باطلاً، والقرآن يوجب الإيمان بالكل، عملاً بما جاء في سورة البقرة {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}6.
ولكن هنالك خلافاً آخر مع اليهود حول تحريفهم التوراة. والرسالة الإسلامية صادقة فيه. فقد ثبت أن اليهود عبثوا بالتوراة ولم نقف على ثبوت أن ذلك العبث كان بقصد حذف اسم محمد منها ولكن تحريف التوراة صار مستنداً قوياً للرسالة الإسلامية ضد اليهود، ولا حاجة للإطالة في هذا الموقف لأن اليهودية، كما بيّنا في الحلقة السابقة (الصفحة أعلاه) تخرج من كونها رسالة خير عام، ولا يجوز، من هذه الناحية، وضعها على مستوى واحد مع المسيحية والإسلام.
تبقى مسألة الخلاف بين هذين الدينين على عدم تأييد المسيحيين لرسالة محمد وعلى صفة المسيح وبعض الأمور الأخرى فنفرد لذلك مقالاً في الحلقة التالية.
هاني بعل
للبحث استنئاف

مدار الخلاف بين الإسلام والمسيحية

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (30)، 15/10/1941م

لا شك، مهما كان قليلاً، في أن الإسلام يؤيد الرسالة المسيحية تأييداً تاماً، مطلقاً من كل قيد أو شرط وأنه يعد نفسه مكملاً لها عند الذين لم يأتهم نذير من قبل، أي عند الذين لم تشملهم الرسالة المسيحية. أما المؤمنون بهذه الرسالة فلا يطلب منهم الإسلام سوى الاعتراف بأنه دين حقيقي مصدّق لرسالتهم. والآيات القرآنية التي تقيم البرهان القاطع على هذه الحقيقة كثيرة وما تقدم لنا إثباته منها يكفي لقطع كل قول مخالف، فما هو منشأ الخلاف بين الدينين، والأصح بين الملّتين، وما هي أسبابه؟
رأينا في ما تقدم أن القرآن اتخذ صفة التسبيح والترنم في عظمة وقدرة الله الذي تقدمت القرآن كتب سابقة في إثبات وجوده، والدعوة إلى العمل بمشيئته والإنذار بيوم حسابه. وإن القرآن صدّق هذه الكتب وجعلها شاهدة على صحة دعوة محمد. ولكن السيرة المحمدية، التي لا بد من التحقيق فيها والاستناد إليها لفهم آي القرآن وأغراضها، تخبرنا أن اليهود والمسيحيين في العُربة أخذوا ينتقدون اعتبار محمد نفسه رسولاً من عند الله . وينتقدون بعض الآيات ويرفضون تأييد رسالته. فاليهود ادّعوا أن الله وعدهم بإرسال مسيحهم الذي يعيد مجد إسرائيل. والمسيحيون قالوا إنه لا يصح أن يأتي بعد المسيح نبي أو رسول.
مع ذلك فقد وجد المسيحيون أن دعوة محمد كانت موافقة لاعتقادهم الإلهي فلم يكن موقفهم من الشدة كغيرهم، وأكثر المقاومة كانت من صناديد قريش، فهؤلاء اتهموه بعدم صحة ادعائه الوحي ونسبوا إليه الاقتباس عن التوراة والإنجيل والتلقن، تشهد بذلك آيات عديدة كهذه: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلماً وزوراً. وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً}1. وقد ثبت أن محمداً كان يسمع قراءة التوراة والإنجيل في مكة فقد ثبت أنه كان بمكة رجلان يصنعان السيوف اسم أحدهما جبر واسم الآخر ياعر وكانا يقرآن التوراة والإنجيل وكان محمد يمر عليهما فيقرآن له ويسمع (انظر شرح سورة النحل للبيضاوي)2. وقد استنزل الرسول آيات كثيرة لتأييد أن ما يقوله وحي ينزّل عليه منها هذه: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}1. {آلم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}2. وهذه الآية من أوضح الآيات التي تبيّن أن محمداً كان رسولاً إلى الذين لم يأتهم رسول من قبل في الدرجة الأولى، أي العرب، ليدعوهم إلى الله الذي سبقت الكتب الأخرى بالدعوة إليه وليصدّق تلك الكتب. وهو ما عنيناه من اختصاص الرسالة بالعرب من غير أن ينقض ذلك اشتراكها مع الرسالات السابقة وتأييدها في دعوة الناس أجمعين إلى أغراض الدين الأخيرة. والآيات القرآنية التي تأتي بهذا المعنى كثيرة حتى لا يبقى أي شك في هذا التعليل وقد أوردنا بعضها في حلقات سابقة وفي ما تقدم من هذه من هذه الحلقة ونورد هنا آيات أخرى: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أَجَعَلَ الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب}3. وهذه الآية موجهة خصيصاً إلى الذين لم يعرفوا الله ولا يزالون يعبدون الأصنام. ومثلها قوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}4. فالأميّون الذي كانوا من قبل لفي ضلال مبين هم العرب خاصة بلا ريب. {وما كنتَ بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون}5. ومعنى هذه الآية أنه وإن لم يكن محمد حاضراً مناداة الله لموسى فقد منَّ الله عليه بالوحي رحمة بقوم ما أتاهم نذير من قبل. وهذا يعني أن لم يكن في بدء الرسالة الإسلامية أي اتجاه للاصطدام مع الموسويين أو المسيحيين في نزاع على ادعاء صحة الرسالة أو نقض التعاليم، بل كان الاتجاه للاتفاق على القضاء على عبادة الأصنام في العُربة. ولكن لم يكن بد من اصطدام المعتقدات في الأخير، كما بيّنا آنفاً، لأنه لم يمكن الموسويين التسليم بتعدد الكتب المقدسة ولا المسيحيين التسليم بتعدد الدعوات. ولكن الاشتراك في الأغراض الدينية البحتة المشار إليها سابقاً خفف كثيراً من الاصطدام. أما المشركون أو عبدة الأصنام فلم يكن من سبيل لتخفيف الاصطدام والنزاع معهم، فوجهوا إليه انتقادات لاذعة ونسبوا إليه السحر والهذيان والجنون، في حين أنه كان رسولاً مخلصاً إليهم.
وحدثت في أثناء الدعوة حوادث جعلت الشك في الوحي يتسرب إلى الذين آمنوا بالرسالة، فكان من جملة الآيات التي استنزلها الرسول لدحض مزاعمهم هذه الآية: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شي ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرِجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون}1. وذلك أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب وحي النبي فلما نزلت أية: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}2 وبلغ قوله: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} قال عبد الله: {فتبارك الله أحسن الخالقين}3 فقال له محمد: «اكتبها فكذلك نزلت» فشكّ عبد الله وقال: «لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي ليّ كما أوحي إليه وإن كان كاذباً لقد قلت كما قال» فنزلت الآية المذكورة أعلاه لتكذيبه وتكذيب غيره كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما الذين أوجبت مقاومتهم له حروباً دامية.
يتضح في كل ما تقدم، في ما يعني المسيحية والإسلام من الدعوة الإسلامية وأغراضها، أن هذه الدعوة لم تدعُ إلى أمر واحد من الأمور الدينية الصحيحة مخالف لتعاليم الدين المسيحي، بل إن القرآن أيّد الرسالة المسيحية بآيات كثيرة ودعا القرآن المؤمنين بالإنجيل ليحكموا {بما أنزل الله}4 فيه من غير زيادة أو نقصان أو ما يوجب تغيير «صلاتهم» وتعاليم دينهم. فالخلاف نشأ بالأكثر، من موقف المسيحيين العرب من محمد، بل أعظمه ما كان مع اليهود الذين أخذوا يخادعون النبي في المدينة، فكان إذا انتصر على المشركين وعاد غانماً يقولون إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة، فلما انكسر يوم أُحُد نكثوا العهد معه على أن لا يكونوا له ولا عليه، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً منهم إلى مكة وحالفوا أبا سفيان، فأرسل النبي أخا كعب من الرضاعة فقتله وصبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء، فنزلت الآية: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانِعتُهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار}5 (الحشر. مدنية). وهذه الآية والتي تقدمتها هما من أشد الأدلة صحة على ارتباط الآيات القرآنية بالحوادث الجارية.
وإذا كان محمد وجد من موقف المسيحيين ما أوجب عدم رضاه وعدم رضى الوحي، فإن المسيحيين وجدوا في تعليقات القرآن على اعتقادهم في المسيح سبباً كافياً لعدم تأييده. وقد يكون هنالك سبب آخر سابق لهذا السبب هو كون القرآن ابتدأ بذكر التوراة وموسى وإبراهيم ولم يذكر الإنجيل والمسيح منذ البدء، ورؤية المسيحيين القرآن يجاري التوراة أكثر مما يجاري الإنجيل في البدء. وإن أول إشعار لاتصال القرآن بالمسيحية كان في الآية النافية كون الله ولد ولداً واتخذ صاحبة. وهي من سورة الجن وقد أثبتناها في الحلقة السابقة (الصفحة 174 أعلاه). ولم نحقق في هل كان نفي كون المسيح ابن الله سبب إعراض المسيحيين عن دعوة محمد وعن تأييده، أم هل كان موقف المسيحيين باعثاً على اتخاذ الرسالة الإسلامية خطة المقاومة لبعض معتقداتهم، أو هل كان نفي بنوية المسيح أمراً مستقلاً أوجد سبباً آخر للخلاف. ومهما يكن من شي فالثابت من تدّبر القرآن كله أن الرسالة الإسلامية عدّلت معنى الآيات القائلة بعدم ولادة المسيح من الله بإعطاء وصف لكيفية حمل مريم يمكن أن يعدّ أمراً وسطاً بين الاعتقاد بأن المسيح ابن الله ونفي صلة المسيح بذات الله وهو القول إنه ولد {من روح الله}1. وعلى هذا الأمر وحده يدور كل الخلاف العقائدي الديني بين المسيحية والإسلام. أما التعاليم المسيحية فلا يقول القرآن بمخالفة شي منها، بل على العكس هو يثبتها ويقول إنها كلام الله المنزل وبهذا القول يرفع كل احتمال لاختلاف الإسلام والمسيحية على أغراض الدين، وتبطل كل حجة للذين لم يفهموا من الرسالة الإسلامية غير حب التغلب والطمع في الدولة والسلطان ومنافعهما، القائلين إنه لا يتم الدين إلا باستظهار الإسلام على غيره من الأديان وبالعمل ببعض آيات الكتاب دون البعض الآخر. فالدين وأغراضه الأخيرة تكمّل، حسب قول القرآن، بالإيمان بما أنزل من قبل ومن بعد وهو يحتم على المسلمين الإيمان بالإنجيل.
انحصر الخلاف بين الإسلام والمسيحية في أمر واحد من جهة الإسلام وأمر واحد من جهة المسيحيين، ولا نقول المسيحية لأن الإنجيل من حيث هو سابق للقرآن لم يعرض له فاقتصر الأمر على معتقدات المسيحيين في صدد محمد ورسالته، وليس على كلام الإنجيل في محمد، فالأمر الأول هو مخالفة القرآن اعتقاد معظم المسيحيين في صفة المسيح وصفة الله ، والأمر الثاني عدم إيمان المسيحيين برسالة محمد وبأنه نبي حقيقي، وسنبحث هذين الأمرين في الفقرات التالية:
قلنا في الحلقة السابقة (الصفحة 174 أعلاه) إن أول تلميح في القرآن إلى المسيح أو المسيحية كان استنكاراً لصفة المسيح وعلاقته بالله وذلك في الآية: {وإنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً}2 فإذا حققنا في هذا القول وجدنا أن العقل العربي، نظراً لحالة البداوة وانعدام الثقافة العقلية، لم يستطع أن يتصور كون المسيح ابن الله إلا بأن يكون الله قد تزوج امرأة أو «اتخذ صاحبة» ولدت له ابناً. وهذا لو صح أنه معتقد لكان إنزالاً لله عن مقامه، إذ هو غير محتاج، مع قدرته، لأن يتّخذ صاحبة شأن الرجال العاديين فيتزوجها وتلد له ولداً على سُنَّة البشر، وصحة هذا التحليل للعقلية العربية تتضح من قوله: «تعالى جد ربنا» أي أن الله أعلى من أن يكون هكذا شأنه وصفته. ولا خلاف بين الإنجيل والقرآن في ذلك ولا بين المسيحيين والمسلمين فيه. فالمسيحيون الذين قالوا بالتثليث منهم والذين قالوا بالتوحيد أو بالتثنية (بالطبيعتين أو بالمشيئتين) لا يقولون أو يعنون أن الله اتّخذ صاحبة وتزوج امرأة لتلد له، ولكنهم قبلوا رواية الإنجيل أن مريم حبلت من الروح القدس بمشيئة الله من غير تعيين لكيفية حصول الحمل ومن غير أي دخول في المسائل البيولوجية كوجوب حصول اللقاح، وهم لم يأخذوا الوجهة البيولوجية بعين الاعتبار تنزيهاً لقدرة الخالق عن الحاجة إلى الفعل البيولوجي وإعلاء لجده عن شأن الناس «المخلوقين» الذين لا قدرة لهم على الولادة إلا على الطريقة البيولوجية.
ولذلك كانت مسألة ولادة مريم العذراء المسيح من العجائب الدالة على قدرة الله ونفاذ مشيئته. وهذه الولادة العجائبية عندهم هي من أقوى مستندات اعتقادهم بألوهية المسيح، أي بحلول روح الله في جسده أو حلول اللاهوت في الناسوت. وليس في هذا الاعتقاد عند المسيحيين أي إنزال لقدرة الله أو تفكير بأنه «اتخذ صاحبة» شأن الرجال العاديين. ولكن لا يبعد أن يكون ظهر شي من هذا التفكير عند بعض العرب الذين قبلوا الدين المسيحي وفسروه حسب عقليتهم الفطرية غير المثقفة. وفي هذه الحالة يكون كلام القرآن موجهاً إليهم من دون المسيحيين المتمدنين، وهذا هو الأرجح من حيث اعتبار صحة الوحي النبوي وأنه موجه إلى العرب خاصة وبلسانهم. أما من الوجهة العلمية البحتة التي تطلب لكل مسبب سبباً فالآية القرآنية نفسها تصف طريقة التفكير العربي غير المثقف، فهي إما مطابقة للعقلية العربية وإما محللة لها. وهي في كل حالة مختصة بطريقة الفهم العربي الذي ضيقت الطبيعة القاسية على أفقه الروحي والاعتقادات المسيحية الروحية لا تدخل تحت حكم هذه الآية، لأنها كلها تنزّه الله عن الفعل البيولوجي ولا تناقش قدرة الله على إرسال روحه بشكل حمامة أو بأي شكل آخر ليستقر في أحشاء مريم.
سأل رجل مالك بن أنس، أحد مؤسسي المدارس الأربعة في الإسلام، عن قوله في القرآن: {الرحمن على العرش استوى}1 كيف هذا الاستواء؟ فأجاب مالك: «الاستواء معقول والكيف مجهول ولا أظنك إلا رجل سوء».
هذا السؤال والجواب يدلاننا على أن المسلمين الأولين لم يتعرضوا لدرس القرآن دراسة علمية فقبلوا الصور الشعرية قبولهم الأوصاف الحديثة والتعليلات المنطقية. فالقول «الرحمن على العرش استوى» يدخل في الصفة الشعرية التي حللناها في الحلقة السابقة (الصفحة 172 ــــ 173 أعلاه) وهو من باب قوله: «خلق من علق وعلّم بالقلم» ولا لزوم لإحلاله في محل التقرير الحدثي التاريخي أو في محل التعليل الفلسفي. ولكن جواب مالك يفتح باب القياس في الاعتبارات الدينية. فإذا كان يصح في الإسلام أن تكون أفعال الله معقولة وكيفياتها مجهولة فلماذا يجب أن لا يصح ذلك في المسيحية؟ فإذا كان الله قادراً على كل شي، فلماذا لا يكون قادراً على التجسد أو على إرسال روح القدس ليتجسد في شكل إنسان من غير وجوب تعيين كيفية حدوث التجسد؟ وإذا كان الله لا يقدر على التجسد، حسب بعض المعتقدات الدينية، فقدرته لم تعد كلية، بل أصبحت محدودة وأصبحت جميع الخوارق المنسوبة إليه كالخلق والبعث باطلة، ومن ثم أصبح هو نفسه باطلاً. (نذكّر القارىء أننا لا نتعرض هنا لأمر ثبوت المعتقدات الدينية أو زوالها، فلا نعرض لإثبات أو نفي حلول روح الله في جوف مريم العذراء ولا لإثبات أو نفي أزلية القرآن وتنزيله، بل نبحث منطقية بعض الافتراضات أو الاعتقادات فقط).
وقد استمر القرآن يرفض الاعتراف باعتقاد المسيحيين أن المسيح هو ابن الله الوحيد. فوردت في ذلك آيات عديدة بمعنى الآية السابقة كقوله: {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شي وهو بكل شي عليم}1. {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}2. {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك..}3. {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}4. وهذه الآية الأخيرة هي مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية في فهم اعتقاد المسيحيين كون المسيح ابن الله وإنه، لذلك، إله. فالمسيحيون لا يقولون بألوهية للمسيح منفصلة عن ألوهية الله وبإرادة له مستقلة عن إرادة الله ، ولكن قد يكون وجد بين مسيحيــي العرب من أوَّل الاعتقاد هذا التأويل.
ومع استمرار القرآن في إنكار ألوهية المسيح فقد طرأ في سياق الدعوة المحمدية تعديل كبير على النظرة الأولى الورادة في آية سورة الجن والآيات الشبيهة بها. وهذا التعديل يدل على حدوث اتصال أقرب بالإنجيل. وأول ما يظهر هذا التعديل في سورة مريم وهي نزلت بعد (الجن) بثلاث سور. فانظر هذا التعديل الذي يمكن أن يعد نقيضاً لما ورد في سورة الجن إذ فيه صورة مجازية تجعل الله بمقام زوج مريم: {واذكر في الكتاب مريم إذا انبتذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغياً. قال كذلك قال ربك هو عليّ هين ولنجعله أية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً. فخملته فانتبذت به مكاناً قصياً1… ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}2.
هذه الآيات تدل على علاقة وثيقة بإنجيل متّى وإنجيل لوقا. ومن التدقيق فيها يتضح لنا أن القرآن اعترف بصحة رواية الإنجيل لكون ولادة المسيح حدثت بصورة إلهية مباشرة خارقة لجميع السنن السارية على الإنسان والحيوان، يؤيد ذلك:
1) قوله: {ولنجعله آية للناس}3 فالآية هي العجيبة أو المعجزة الإلهية.
2) إن قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً}4 تجعل علاقة مباشرة وثيقة بين الله ومريم وهو مع قوله: وكان أمراً مقضياً فحملته..}5. يُعدُّ اجتهاداً في إعادة تصوير حادث الحمل بصورة موافقة لرواية الإنجيل، ومقبولة للعقل العربي من حيث تتضمن المعنى البيولوجي.
3) إن هذه الآيات توافق قول متّى إن مريم: «وجدت حبلى من الروح القدس»6 وما ورد في إنجيل لوقا من المحاورة بين الملاك جبرائيل ومريم ولكنها تضع روح الله في مكان جبرائيل.
بناءً عليه تكون هذه الآيات قد أزالت كل خلاف بين القرآن والإنجيل على صفة المسيح، لأن محصلها يوافق كل الموافقة الرواية الإنجيلية ومعتقدات المسيحيين، ولا يوجد مسيحي واحد يرفضها. ومع ذلك ومع وضوح الاعتراف بولادة المسيح بمشيئة الله ومن اتصال روحه بمريم مباشرة فإن القرآن لم يوافق على الاستنتاج أو الاعتراف بأن ذلك يعني أن المسيح هو ابن الله الوحيد، أي المولود منه، فيلحق بالآيات المذكورة آية أخرى تأتي رأساً بعد آية {ذلك عيسى ابن مريم..}7. وهي قوله: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}8.
وقد ورد في القرآن بعد التعديل المذكور تعديل آخر هو أشد نقضاً لآية (الجن) وأقرب إلى تعليل ولادة المسيح الإنجيلية بطريقة أكثر قبولاً للعقل العربي وذلك بقوله: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين}9. وهي بعد سورة مريم بسبع وعشرين سورة. ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى الجهاز التناسلي. ويعود القرآن فيزيد هذا التعليل وضوحاً بقوله: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين}1. فعوّض عن قوله «فنفخنا فيها» بقوله «فنفخنا فيه». وهذا الاتصال لله بمريم هو أبعد كثيراً مما تذهب إليه رواية الإنجيل وتصورات المسيحيين المتمدنين. وفي سورة آل عمران النازلة بعد (الأنبياء) وقبل (التحريم) ما يدل على علاقة بإنجيل يوحنا وهو قوله: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح…}2 و«الكلمة» في تعليل يوحنا هي صفة الله : «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله … هذا كان في البدء عند الله . والكلمة صار جسداً وحلّ فينا وقد أبصرنا مجده مجد وحيد من الأب مملوءاً نعمةً وحقاً»3. ولكن القرآن يعدّل هذه الفكرة في السورة عينها ويوضحها هكذا {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}4. وهذه الآية لا تقصد إيضاح ولادة المسيح، بل تقصد تأويلها، فكيفية مجي المسيح آية من الله وكلمته مشروحة في سورة مريم وفي آيتي (الأنبياء) و(التحريم)، وفي جميع هذه الآيات أن الله لم يخلق المسيح كما خلق آدم، إذ لم يجبله من تراب وينفخ فيه نسمة حياة بل أرسل روحه إلى مريم5 ومحصّل سورة آل عمران أن المسيح وإن يكن ولد بصورة خارقة وباتصال الله بمريم فقيمة مجيئه على هذه الكيفية ليست أكثر من قيمة مجيء آدم الذي لم يولد من تزاوج ولقاح، بل خلق خلقاً بإرادة الله . فالمسيح إذاً مخلوق بالمنزلة التي خلق بها آدم لا أكثر. فيكون القرآن حافظ على القول الأول الوارد في سورة الجن على الرغم من الآيات التي عدّلته تعديلاً كبيراً كما رأيت. ونأسف أن لا تكون لدينا الأدلة التاريخية الكافية لتعيين هل أوجبت الحوادث التاريخية هذه المحافظة، أم هل أوجبتها النظرة المبدئية أو مبدأ المحافظة على صحة ما سبق أو مبدأ المفاضلة بين الأنبياء والرسل الذي برز في طور من أطوار القرآن، ونما واتخذ شكلاً واضحاً، مع تقدم الرسالة، ظهر بالقول بتفضيل الإسلام على جميع الأديان الأخرى.
وخلاصة هذه المخالفة الإسلامية لصفة المسيح الأخيرة هي أنها مخالفة غير شديدة ولا جازمة، إذ قد تبيّن من النصوص القرآنية المثبتة آنفاً أن القرآن أقر الرواية المسيحية لكيفية حمل مريم وولادة المسيح، ولكنه خالف المسيحيين في تأويل قيمة الحادث فتكون هذه المخالفة بمنزلة شيعة من الشيع في المسيحية وهي أقل بعداً عن الشيع المسيحية من بعض الشيع الإسلامية عن كلها كالرافضة، مثلاً. فالخلاف على التأويل وليس على الحدوث.
ويزداد هذا الخلاف على التأويل في أواخر الوحي ويبلغ أوجه في سورة المائدة بقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شي قدير}1. وقوله: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}2. وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم}3. والآية الأولى من هذه الآيات الثلاث تنكر استنتاج المسيحيين أن المسيح هو الله المتجسد وهي تتفق مع قول الآية: {فنفخنا فيها من روحنا}4. ولكن الاتفاق ليس تاماً خصوصاً مع قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً}5. والآية الثانية لا تشتمل على سوى القول باعتبار المسيح في منزلة رسول. والأخيرة تظهر الاعتقادات التثليثية المسيحية كأنها تقول إن الآلهة ثلاثة، مع أن هذه الاعتقادات لا تقول بتثليث الآلهة، بل بتثليث المسيحية كأنها تقول إن الآلهة ثلاثة، مع أن هذه الاعتقادات لا تقول بتثليث الآلهة، بل بتثليث الأقانيم التي هي أجزاء واحد، لأنه الله عند المسيحيين واحد والتثليث من صفاته وليس من تعدده، فلا خلاف بين الإسلام والمسيحيية في كون الله واحداً ولذلك قال القرآن: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}6.
وتكفير القرآن المسيحيين ليس من أجل دينهم وتعاليمه «صلاتهم» بل من أجل تعدد الآلهة إن صح أنهم يقولون به وقد صحّ وثبت أنهم لا يقولون به، وأثبت القرآن أن إله المسيحيين والمسلمين واحد. يبقى أمر تكفيرهم لاعتقادهم أن المسيح هو الله بالتجسد وهو لا يتناول عقيدة التوحيد ولا غرضاً واحداً من الأغراض الدينية الأساسية التي دعا إليها الإسلام، بل يتناول مسألة مقدار ما يجب أن يستنتج من ولادة المسيح على الكيفية المشروحة في الإنجيل والقرآن. وهو خلاف مذهبي في الدين الواحد وليس بين دين ودين إذ هو ليس خلافاً مع الإنجيل أو المسيح بل مع طوائف المسيحيين حول التأويل الذي يجب أن يعطى لولادة المسيح. وهذه المسألة تشبه مسألة هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق في الإسلام، فإن اعتُبر القرآن لوحاً مسطوراً منذ الأزل أفلا يمكن الاستنتاج من ذلك أن القرآن أقنوم من الله أو غير ذلك من الاعتقادات التي لا يوجد نص يمنعها بصورة قاطعة؟ ويخفّ كثيراً هذا الخلاف باعتبار أن كلام المسيح هو كلام الله ، إنما المسيحيون يقولون إن الله قاله بالتجسد والقرآن يقول بالتنزيل على المسيح والنتيجة تقرّب شقة الخلاف.
وفي تطور الرسالة الإسلامية يظهر خلاف آخر في أمر المسيح هل صلب بالفعل أم لم يصلب. فالقرآن ينفي صلب المسيح مجاراة لإنجيل برنابا الذي روى سيرة المسيح بطريقة شاذة، ظاهرة فيها محاولة تحقير شخصية المسيح. ففي إنجيل برنابا أن المسيح لما شعر باقتراب تسليمه وأن يهوذا قادم مع جمع من اليهود أو الجند هرب إلى منزل واختبأ في حجرة فدخل يهوذا الأسخريوطي في إثره فرفع الله المسيح وألقى على يهوذا نوراً جعله يشبه المسيح كل الشبه حتى لم يشك الآتون للقبض على المسيح في أنه هو المسيح، فقبضوا عليه وهو يصيح قائلاً إنه ليس المسيح فلم يصدقوه وأخذوه وكل يقينهم أنهم قبضوا على المسيح. وإليك قول القرآن: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً. وقولم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً}1.
هذا هو وجه الخلاف الوحيد، من جهة الإسلام بين المسيحية والإسلام أوردناه من غير تطويل ومن غير إغفال لوجه واحد من وجوهه. ومنه يتبيّن بصورة لا تبقي مجالاً للريب أن الإسلام لا ينقض الدين المسيحي ولا تعاليمه، بل يثبته ويعدّ الإنجيل منزلاً، أي كلاماً إلهياً، يتوجب على المسلمين أن يؤمنوا به، ونصوص هذا التثبيت صريحة وقد أثبتنا بعضها في ما تقدم.
بناءً عليه يمكن القول بصورة جازمة إن أغراض الدين الأساسية تتم، من جهة العقيدة الإسلامية الصحيحة، بالإسلام والمسيحية معاً {فيكون الدين كله لله}2 بواسطتهما وبانتشارهما كل منهما في البيئات الأكثر موافقة وقبولاً لتعاليمه. أما ما ورد من النصوص التي يمكن أن تؤول بما يظهر أنه ينقض هذا الحكم فتأويله الصحيح أنه من خصائص الإسلام كدولة.
وهنالك اجتهادات وقعت في الغلط والشذوذ عن النصوص أجازت حسبان المسيحيين في عداد الكفار وأهل الشرك استناداً على تكفير القرآن تأويل التجسد والتثليث. ولا شك في أن العقدة الكبرى هي في هذه الاجتهادات التي لا تدبّر صحيحاً فيها للقرآن. ومن هذه الاجتهادات ما خلط بين الدين المسيحي والملّة المسيحية. فكل ذلك باطل في حكم القرآن: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليم ولا هم يحزنون}1. وقد ذهبت الرسالة الإسلامية إلى أبعد من ذلك في ما يختص بالمسيحيين {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين شركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}2. ولكن أكثر الشارحين والمفسرين يقتلون النص ويعوجون الدين باجتهاداتهم. فقد شرح البيضاوي3 هذا القول قائلاً: «وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر». فكأنه أبطل حكم هذه الآية وحكم الآية السابقة القائلة إن النصارى مؤمنون باليوم الآخر وكأن عميَ عن آية سورة الحج التي أخرجت حتى المجوس من نطاق المشركين وهي {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شي شهيد}4 وإن هذه الآية من جملة آيات كثيرة تأمر بترك الحكم والفصل بين أهل الأديان في ما اختلفوا فيه لله وحده. وهي تبطل كل حجة للذاهبين مذهب أن الإسلام لا يتم إلا بمغالبة أهل الأديان الأخرى وأن كمال الإيمان عند المسلمين يكون بالميل إلى التغلب على سواهم وإلا لأبطل هذا المذهب قسماً هاماً من نص الدين، وإذا عملنا مبدأ أن آيات تنسخ آيات فماذا يبقى من القرآن؟
هاني بعل
للبحث استئناف

بين الدين والدولة

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (32)، 15/11/1941م

إن النتيجة النهائية التي وصلنا إليها في الحلقتين المتقدمتين وهي: أن الدينين المسيحي والإسلامي متفقان كل الاتفاق في الأغراض الدينية الأخيرة، وأن الواجب على اتباعهما يقضي بترك محاربة بعضهم البعض ومحاولة إخضاع بعضهم بعضاً، لا توافق رجال السلطة الروحية من الملّتين ولا رجال النفوذ السياسي المبني على المذهب والملّة. فرجال الدين من الملّتين لا يقبلون الاعتراف بأن الدينين صحيحان، فكل فريق يدّعي أن دينه هو الصحيح وأن خلاص النفوس لا يتم إلا به. ومما لا شك فيه أن هذا البحث ليس موجهاً إلى رجال الدين أنفسهم، بل إلى الخاصة والعامة من العلمانيين، فإذا كان رجال الدين قد وقفوا أنفسهم عليه فإن الدين لم ولن يقف نفسه عليهم.
إلى جميع الناس، غير رجال الدين، نوجه هذه الدعوة: لنترك رجال الدين يتناظرون ما شاؤوا المناظرة في أي الأديان أصحها، بشرط أن لا يتعدوا حدود المناظرة إلى تهيج الغوغاء والسُذَّج وغرس الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد باسم الدين.
إن هذه الدعوة تعني ترك العصبية الدينية واعتناق العصبية القومية التي تجعل جميع السوريين، مسلميهم ومسيحييهم، عصبة واحدة.
هذه الدعوة هي التي يحملها في سورية الحزب السوري القومي. وقد اصطدمت هذه الدعوة بمقاومة من الملّتين المسيحية والإسلامية. أما حجة أبناء الملّة المسيحية فكانت أن الوحدة القومية تعيد المسيحيين إلى عهد الخضوع لدولة إسلامية لا حقوق مدنية وسياسية فيه للمسيحيين. وهذه أقوى حجج المدنيين المسيحيين باستثناء بعض المهووسين الذين يدسون هنا وهناك عبارات الكره والحقد على المسلمين، واكتفوا بالدسّ، ولم يقدروا على تقديم نظرية يمكن أن تكون شبه عقيدة. وأما حجة أبناء الملّة المحمدية فكانت ذات نظرية مؤسسة على نصوص دينية كالتي عالجنا بعضها في ما تقدم، وقال بها رجلان خطيران كالسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده اللذين استند إلى أبحاثهما أكثر المسلمين الذين يقاومون نشوء القومية في سورية لتكون رابطة تحلّ في الاجتماع والحقوق محل الملّة. ولما كان هذا البحث مختصاً، بالأكثر، بمناقشة أصحاب هذه النظرية التي صفق المسلمون كثيراً في المهجر لرشيد سليم الخوري الذي تحزّب لها لغاية في نفسه، فسنتابع المناقشة لنصل إلى نتيجة حاسمة.
ولكن لا بد من زيادة إيضاح للأسباب الداعية لتخصيص معظم هذا البحث بالوجهة الإسلامية. وأهم هذه الأسباب هو طبيعة كل من الدينين واتجاهه. فالمسيحية نشأت نشأة دين بحت مجرد من شؤون الدولة والحكم. فقد اختص الدين المسيحي بالأفراد ومعتقداتهم ومناقبهم. أما الدين الإسلامي فقد بيّنا، فيما تقدم من حلقات هذا البحث، أنه اضطر لأخذ طبيعة البيئة التي نشأ فيها بعين الاعتبار. وطبيعة البيئة اقتضت إيجاد الدولة لتكون وسيلة لإقامة الدين. ولما كان غرض الدولة إقامة الدين كان لا بد أن يكون أساسها، فهي وجدت بالدين لإقامة الدين. ومن هذه الضرورة الخاصة بالبيئة العربية نشأ هذا الارتباط الوثيق بين الدولة والدين في الإسلام، حتى التبس أمر كليهما حتى على أكبر المفكرين المسلمين. ولهذا السبب نجد مسألة الفصل بين الدين والدولة في الملّة الإسلامية أصعب حلاً منها في الملّة المسيحية، لأن الدولة موجودة في النصوص القرآنية كما هي موجود في نصوص التوراة. ولكنها ليست موجودة في نصوص الإنجيل. وبناءً على النصوص القرآنية أمكن صاحبي (العروة الوثقى) القول: «إن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم»1، والقول مخاطبين المسلمين: «هل نسوا وعد الله لهم بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟»2، والقول: «الديانة الإسلامية وُضعَ أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح والعزة ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها»3، والقول: «ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملّتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله » وذلك «لإعلاء كلمة الحق وبسطة الملك وعموم السيادة»4، والقول: «كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف إجراؤه على قوة الولاية الشرعية»5. وكل هذه الأقوال بعيد عن الصواب وليس فيه تدبّر صحيح لنصوص الديانة الإسلامية وتاريخها، كما بيّنا ونبيّن، بل هي جميعها نتيجة استبداد في الاجتهاد من أجل الوصول إلى أغراض سياسية مبنية على نظرة الدولة الدينية والجنسية الدينية.
تقدم قولنا إلى الرسالة الإسلامية تقسم إلى قسمين: القسم المكي والقسم المدني (راجع الحلقة 16) ثم عدنا فقلنا (الحلقة 23) إن نصوص الإسلام على وجهين: وجه في الدين ووجه في الدولة. والقسم المكي هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدينية والقسم المدني هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدولية. وهذا الازدواج في اتجاه الرسالة الإسلامية الذي لم يحصل له فيما مضى دراسة تجمع وجهتيه في وحدة فكرية روحية هو الذي يسهل لأصحاب الأغراض السياسية الأخذ بأي وجه أرادوا، حسبما يوافق أغراضهم، وهو ليس عيباً في القرآن، بل نقص الثقافة التاريخية الاجتماعية وعدم تدبّر الرسالة الإسلامية كما يجب.
وأصحاب الأغراض السياسية لا يريدون نشوء هذه الدراسة في الإسلام، لأنها يمكن أن تقضي على جميع محاولات استخدام الدين للأغراض السياسية والمطامع الخصوصية. فإذا ظل الإسلام بعيداً عن هذه الدراسة التكنيكية لم يخشَ هؤلاء الأراخنة افتضاح أمرهم، بعكسهم الاتجاه الأول للإسلام، فإن محمداً استخدم الدولة لإقامة الدين وجعل الدين أساساً لتنظيم شعب باقٍ في حالة همجية. أما هؤلاء الدبلوماسيون فيريدون استخدام الدين لتنفيذ المطامع السياسية.
وليس هذا جديداً في الإسلام، بل شيئاً قديماً ظهر في أطوار تاريخية كثيرة. فقد وجد المتنازعون على السلطة والسيادة أسباباً كافية في ثنائية الإسلام للمبالغة في العناد والمكابرة، حتى إنه يمكن كتابة مجلدات في هذا الباب في حجج العروبيين والشعوبيين وفي النزاع، حتى بين الصحابة والأمويين وبيت علي. ونكتفي للدلالة على سعة التلاعب بثنائية النصوص الإسلامية بإيراد هذا الحادث الذي جرى لمعاوية إذ خاطب الناس قائلاً: «أيها الناس إن الله فضّل قريشاً بثلاث فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام «وأنذر عشيرتك الأقربين» فنحن عشيرته. وقال: «وإنه لذكر لقومك» فنحن قومه. وقال: «لإيلاف قريش إيلافهم» إلى قوله: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» ونحن قريش». فأجابه رجل من الأنصار: «على رسلك يا معاوية فإن الله يقول: «وكذب به قومك» وأنتم قومه، وقال: «ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون» وأنتم قومه، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً» وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا زدناك».
هذا مثل رائع من استخدام ثنائية النص القرآني في أغراض المنافسات والمطامع وفاقاً للظروف والحالات. والذين يجدون سهولة في سلك هذا المسلك لا يريدون أن تقوم دراسة توضح أن هذه الثنائية ليست مطلقة بل مقيدة ومرتبطة بوحدة فلسفية يجب استخراجها وإبرازها بصورة واضحة، لإيجاد الاستقرار الروحي في الملّة الإسلامية لتهتم بشؤون الارتقاء الثقافي، فلا تظل معرّضة لتضحية غرض الدين في سيل غرض السياسة التي يهمها الدولة والسلطان والحكم أكثر مما يهمها الدين والارتقاء الروحي والمثل العليا والتقدم الاجتماعي.
درسنا في الحلقات المتقدمة من هذا البحث الناحية الدينية من الإسلام، وأوضحنا ما هي أغراض هذا الدين الأخيرة وأنها لا تتضارب مع الأغراض الدينية المسيحية. وأثبتنا أن النصوص القرآنية نفسها تؤكد ذلك توكيداً لا يمكن دحضه، وبذلك نكون قد أجبنا جواباً قاطعاً على السؤالين اللذين ألقيناهما في الحلقة الثالثة والعشرين وهما: أصحيح أن الدين الإسلامي لا يتم إلا بإعلائه على الأديان الأخرى وبيع المسلمين أنفسهم حتى يتم انتصار الإسلام ويعمّ العالم، وإن هذا هو غرضه الأساسي؟ وإلى أن يقودنا الاعتقاد بأن صحة الديانة الإسلامية هي في محاربة أهل الأديان الأخرى حتى يدينوا بها أو يخضعوا للمسلمين؟
إن النصوص القرآنية التي أثبتناها تنفي نفياً باتاً أن هذا هو غرض الديانة الإسلامية وإن إيجاب القرآن على المسلمين الاعتقاد بصحة الإنجيل بل وصحة التوراة أيضاً والإيمان بما ورد فيهما يقرر نهائياً أن الدين الصحيح من جهة الإسلام يقوم بالمسيحية كما يقوم به وبالإنجيل كما بالقرآن وقد نص القرآن على أن الذين «يؤمنون بالآخرة» (من أهل الكتاب: التوراة والإنجيل) لا حاجة بهم لتغيير «صلاتهم» بل هم يحافظون عليها حتى ولو آمنوا بالقرآن. وكان الأحرى بالذين يرغبون في التقدم الإنساني من المسلمين أن يتدبروا هذه الآية الجليلة من سورة الأنعام التي تسند قولنا السابق (الحلقة 25) بأن اتجاه الرسالة الإسلامية كان للاتفاق مع الرسالات السابقة والاشتراك معها على محاربة عبادة الأصنام وإقامة الدين الإلهي. فالآية المذكورة لم تطلب من «أهل الكتاب» غير الإيمان بأن القرآن كتاب يدعو إلى الله وأن دعوته صحيحة، وهي تؤمنهم على «صلاتهم» حسب كتابهم ولا توجب عليهم تغيير دينهم. وآيات قرآنية أخرى عديدة تسند حكم هذه الآية كتخصيص القرآن ومحمد بالذين لم يأتهم رسول من قبل وكانوا في ضلال مبين، وكلها ترمي إلى إزالة كل احتمال للتصادم والتضارب مع المسيحية واليهودية وإلى توحيد جهود هذه الفرق ضد المشركين عبدة الأوثان. ولو أن المسيحيين واليهود في العُربة عززوا محمداً وأيدوه ووافقوه على المشركين لكانوا أزالوا عقبات كثيرة من الطريق. وكل منصف متأمل في هذه الآيات الحكيمة وقد أثبتنا معظمها في الحلقات المتقدمة، يجد أنها فتحت وتفتح باب التفاهم واسعاً، إذا حسن القصد من المسلمين والمسيحيين على السواء. وهي تقطع على متعنتي المسيحيين حججهم الباطلة القائلة إنه لا يمكن الاتفاق مع المسلمين وكلامهم المشبع جهلاً، القائل إنه لا يمكن حصول الاتحاد القومي في سورية إلا بزوال القرآن. وهذه الآيات عينها لا تسمح، من الوجهة الأخرى، للمسلمين بالغلوّ في الحزبية الدينية، واعتبار أن مئات الأجيال البريئة يجب أن تسقط فريسة التقاطع والتناحر بسبب بعض أغلاط بعض الأولين. وفيما يختص بالمسيحيين في هذا الباب نجد أن القرآن شهد لهم بصدق الوجدان وأنهم لم يكونوا مع المسلمين كالمشركين ولا كاليهود فبعد الآية التي أثبتناها آنفاً التي جاء فيها {ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى}1 تأتي هذه الآية {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}2. ومتى علمنا أنه وجد في العُربة مسيحيون لم يفهموا من الإيمان المسيحي أكثر مما فهم مسلموها من الإيمان الإسلامي لأنهم كانوا أعراباً جهلة مردوا على النفاق، اتضح لنا كم هو فاسد الالتجاء إلى الحجج القديمة لاستمرار الفتنة الدينية.
ولقد قلنا إن مسألة مذاهب المسيحيين في العُربة يجب أن يفرد لها درس خاص لا يشمل موضوعه المسيحيين المتمدنين، يؤيد هذا القول أن علي بن أبي طالب استثنى نصارى بني تغلب من حكم آية المائدة3 التي حللت للمسلمين طعام «أهل الكتاب» والتزوج من نسائهم فقال فيهم: «ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر» فكم يصدق على كثير من نصارى العرب تأويلهم ولادة المسيح وكلام الإنجيل وخصوصاً قضية تثليث الأقانيم؟
بناءً على ما تقدم يصح أن نسأل الذاهبين مذهب السيد الأفغاني والشيخ محمد عبده في تأويل الدين الإسلامي: هل ماتت جميع هذه الآيات السُنيَّة في القرآن؟ أو هل نسخت بآيات أخرى يدل ظاهرها على أنه مخالف لها فأصبحت باطلة؟
إن ثنائية النص القرآني ليس معناها أنه يوجد للرسالة الإسلامية خطتان متباينتان ومستقلتان الواحدة عن الأخرى استقلالاً كلياً، بحيث يجوز للمؤمن أن يختار إحداهما مرة والأخرى مرة أخرى كما يروق له أو يوافق مصالحه أو مطامعه، بل معناها أن هنالك وحدة كامنة بين نوعي النص الإسلامي. وإن هذه الوحدة يجب أن تستخرج من مبدأ ترابط الأسباب والمسببات ومن معرفة نسبة الواسطة إلى الغاية، ومن درس العلاقة الوثيقة بين النص القرآني والأسباب الموجبة أو الحوادث الجارية. فإذا لم يتجه الاجتهاد إلى استخراج هذه الوحدة بهذه الطريقة الاستقرائية، التحليلية، فلا مهرب من الوقوع في مغالطات الهوس الديني السياسي الذي كثيراً ما يضحّي حقيقة الدين على مذبح الأهواء الجامحة، ويطوّح بالمسلمين في مغامرات لا تعود على دينهم بفائدة ولا على دنياهم بخير.
على هذا الطريق السلبي سارت مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فغررت بجماعات كثيرة من المسلمين في مصر وسورية والعراق والهند وإيران وأفغانستان، وكانت نتائجها خيبة تلو خيبة. فإن مبدأ «الجنسية الدينية» للمسلمين نسف من أسّه، فالإسلام لم يكن أحسن حظاً من المسيحية في توحيد الأمم باسمه. فالأتراك لم يقبلوا تضحية جنسيتهم الاجتماعية في سبيل «جنسيتهم الدينية»، ولم يقبل بذلك الفرس ولا أية أمة إسلامية أخرى استيقظت لوحدتها الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الجغرافية ــــ السلالية، ولمطامحها ومثلها العليا المنبثقة من هذه الأصول والعوامل. فذهبت صيحات الكاتبين الأفغاني وعبده في سبيل الوحدة الإسلامية أدراج الرياح ولكنها تركت أثراً سيئاً في الذين تعلقوا بها في سورية وأقطار أخرى فغررت وطوّحت بهم وراء نظرية فاسدة شغلتهم عن طلب وحدتهم القومية فسبقتهم إليها الأمم التي لم تستسلم لهذا الإغراء، حتى إن تركية ومصر والعراق تفاهمت على خسارة السوريين لواء الإسكندرونة للأتراك ومنطقة الموصل للعراق، بل إن العراقيين اتفقوا مع الفرنسيين على تجريد حدود سورية من ناحيتهم من مواقع استراتيجية فأخذوا من الحدود السورية جبل سنجار لقاء قطعة أرض لا تفيد لوقاية ولا لإنتاج.
إن نظرية مدرسة الأفغاني وعبده القائلة بالجامعة الإسلامية والدولة الدينية و«الجنسية الدينية» للمسلمين تقول إن الإسلام دولة وإن النصوص الدولية للإسلام هي الدين، فدعوة هذه المدرسة هي إقامة دولة الدين «ومنازعة كل ذي شوكة في شوكته» ومحاربة الأديان الأخرى ليرث المسلمون أرضها، تأويلاً لما ورد في القرآن، وإلى جعل قاعدة الإيمان القتال. فالمؤمن لا يكون صحيح الإيمان حتى «يكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يراعي في ذلك عذراً ولا تعلة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله»1 .
والحركة التي توجه هذه الدعوة إليها هي «جمع كلمة المسلمين» فيطلب السيد الأفغاني من العلماء «أن يسارعوا إلى هذا الخير وهو الخير كله!»2.
الحقيقة أنه إذا كان هذا هو الخير كله في الإسلام لهذه المدرسة الفكرية فمذهبها الصحيح هو: الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، وأن آيات التحريض على القتال وإظهار الإسلام «على الدين كله»3 قد نسخت الآيات الزكية الهادئة التي ترفع القيمة الروحية على القيمة المادية وأبطلت حكمتها.
وبناءً على مذهب هذه المدرسة الفكرية الإسلامية يجب على المؤمنين نبذ مثل هذه الآية وهجرها: أُدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن أن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}4 (النحل، مكيّة)، ومثلها: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}5 (العنكبوت، مكيّة)، ومثلها: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}1 (الفرقان، مكيّة). فهذه الآيات وغيرها كثير مما أثبتناه من قبل ومما لم نثبته ليست من الخير في شي، في عُرْف مدرسة الدولة الدينية والجنسية الدينية، لأنها لا تقول إن: «كل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله » فالآية المثبتة فوق القائلة إن الله غني عن العالمين هي آية كاذبة وكذلك الآية القائلة بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة فهي باطلة والمؤمن الذي يعمل بها يكون في عُرف هذه المدرسة منافقاً.
فالدين، لهذه المدرسة وأضرابها، ليس ما هو مثبت في القرآن كله وليس بالإيمان بكل ما ورد فيه بل هو ما شاءت أهواؤهم ومذاهبهم وبالإيمان ببعض الكتاب دون بعض أو بالإيمان ببعض الكتاب مرة، وببعضه الآخر مرة أخرى في تقلّب دائم.
إننا نعلم أن هذه الحجج القاطعة التي أوردناها لا تسد جميع أبواب الجدل في وجه أتباع مدرسة الجنسية الدينية، وكأننا نسمع بعضهم يقولون: إذا كانت آيات القتال ونصرة الله لا تبطل آيات الدعوة بالحكمة والموعظة والاكتفاء بالإرشاد والإنذار وسلك طريق الإقناع، فهل تبطل هذه الآيات الأخيرة آيات القتال ونصرة الله؟
وجوابنا: كلا وألف كلا، فبعض آي الكتاب لا يمكن أن يبطل بعض آية إلا للذين لا يتدبرونه، فإذا أخذهم الهوس والزيغ عن كلمة الحق هاجوا واحتجوا ببعض الكتاب وعموا عن بعضه، وقالوا إن الخير كل الخير في الأخذ بآيات معينة والإعراض عن آيات معينة حتى يتم القول: {أم على قلوب أقفالها}2.
إن القتال فرض على المسلمين لإقامة الدين حيث يوجد من يريد إبطاله، أي حيث يكون نزاع ديني كالذي جرى في العُربة مع أهل الشرك. أما حيث لا يوجد شرك وحيث النزاع قائم بين مجتمع ومجتمع، بين أمة وأمة، بالمعنى الاجتماعي، فالدعوة إلى الجهاد الديني لا تدل إلا على عقلية أولية كعقلية العرب الذين لم يفهم معظمهم من المسيحية غير شرب الخمر ولا من الإسلام غير طلب الغنائم.
في الحلقة التالية سنبحث نصوص الإسلام كدولة، وكيفية فهم هذه النصوص فهماً صحيحاً لا يطوح بالدين ولا بالملّة.
هاني بعل
للبحث استئناف

الدين والفلسفة الاجتماعية

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (33)، 1/12/1941م

تمهيد:
كنا قد وعدنا القرّاء، في ختام الحلقة السابقة، ببحث نصوص الإسلام كدولة في هذه الحلقة، ولكن رأينا أن نضع هذه النظرة الفلسفية التحليلية للإسلام قبل بدء بحث نصوصه كدولة، تسهيلاً لفهم طبيعة هذا الدين وأغراضه ومراميه، ولفهم محل نصوصه الدولية منه.
قلنا، في ما تقدم، إن القسم المكي من الدعوة الإسلامية هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدينية، وإن القسم المدني هو الأكثر اختصاصاً بالوجهة الدولية. والحقيقة كلها أقوى من هذا التعريف، فالقسم المكي مختص كل الاختصاص بالنص الديني فلا يدخله شي من النص الدولي، في حين إن القسم المدني يدخله نص ديني مع اختصاصه بالوجهة الدولية من الدعوة، ذلك أن غرض هذا القسم ليس نقض غرض القسم الأول، بل تحقيقه.
وقد قلنا أيضاً إن أول الدعوة هو بمثابة أسسها لأنه يعيّن غاية الدعوة واتجاهها الصحيح قبل أن يطرأ عليها من التفاعل مع البيئة، ما قد يضطرها لاتخاذ أشكال مختصة بسير الدعوة وواسطة تحقيقها، وليس بحقيقة الدعوة وأغراضها الأخيرة. فالدعوة تعلن أولاً ثم يكون السعي لتحقيقها وتعميمها، فتحتكّ بالبيئة وتتفاعل معها. ومن هذا الاحتكاك والتفاعل ينتج تطور الدعوة في نهجها التطبيقي الذي يحتمل أن يكسب الدعوة الأساسية النظرة الفلسفية التي يصلح استعداد البيئة الروحي والمادي لحملها، إذا لم تكن لها هذه النظرة من البدء. وليس لهذا التطور نهج قياسي عام، لأنه مختص بالدعوة والبيئة الناشئة فيها، وليست الدعوات ذات نظرة واحدة، وليست البيئة واحدة في العالم، بل متعددة وعلى أنواع وخصاص شتى. ولبعض البيئات استعداد خاص لاستخراج نظرة إلى الحياة والكون تشمل جميع البيئات التي من نوعها كسورية وإغريقية، مثلاً. فهاتان بيئتان خرجت منهما نظرات وعقائد شملت العالم المتمدن كله. وسورية كانت قاعدة التفكير الإغريقي ذاته من غير نفي خصائصه الغنية. وما قامت به سورية ما كان يمكن أن تقوم به بيئة أخرى كالهند أو الصين، مع غنى كل منهما بالاستعداد النفسي، لأنه استعداد ليس أو لم يكن صالحاً لاستخراج نظرة إلى الحياة والكون يمكن أن تشمل جميع العالم المتمدن.
كذلك البيئة العربية ـــ بيئة الصحراء والبداوة ـــ بيئة الضروريات الحيوية والحلقة المغلقة للأفعال النفسية ــ هي بيئة لها استعداد خاص، بطبيعتها ومزيجها الدموي لاستخراج نظرة إلى الحياة والكون تشمل جميع البيئات التي من نوعها كالسلاجقة والمغول وجميع الشعوب الفطرية أو القريبة إلى البداوة. وهذه النظرة هي: إيجاد صراط مستقيم يوصل إلى الغاية الأخيرة بواسطة شرع حتمي لا حاجة للنفس بما وراءه أو ما حوله، أي تحديد مطالب الحياة بالحاجات المعاشية والتناسلية في وضع شرعي يؤمّن الطريقة العملية لحصول هذه المطالب المحدودة الجامدة، ورفض جميع التصورات الفلسفية المركّبة الخارجة عن الأوليات اللازمة لإقامة الحدود المحتاجة إليها البيئة الصحراوية، شرع واحد لحياة واحدة محدودة.
إن تأمل مؤلف هذا البحث الفلسفي والمبادىء المناقبية واتجاهاتها جعله يقرر هذه القاعدة: كل دعوة، مهما كان ابتداؤها أو غرضها الأخير عاماً، شاملاً لجميع النوع الإنساني، فإن نظرتها إلى الحياة والكون يجب أن تكون منطبقة على خصائص البيئة التي تنشأ فيها واستعدادها الروحي، فلا يمكنها أن تشذّ عن استعداد بيئتها إلا إذا خرجت منها أو وُجّهت إلى غيرها المخالف لها. فلا شك عندنا في وجود تجانس وترابط بين الدعوة أو الرسالة في جميع تفاصيلها والبيئة وجماعتها البشرية في استعدادها النفسي والمادي وظروفهما. ولا شك عندنا في أن انتشار الدعوة وقبولها في البيئات الأخرى يجب أن يكون خاضعاً لمبدأ التجانس والترابط بين النظرة الفلسفية الخارجة من بيئة معينة، واستعداد البيئات الأخرى لقبولها والعمل بها، أو لتعديلها إذا كان قبولها لها غير اختياري أو خاضعاً لعامل تاريخي معين.
اليهودية شبه المتمدنة لم تقدر أن تعمّر طويلاً في سورية لأنها كانت دون استعداد البيئة الروحي. والمسيحية السورية حين دخلت العُربة انحطت حتى صارت مجرد لذات جسدية كشرب الخمر فلم تجد نظرتها إلى الحياة الاجتماعية محلاً لها في النفس العربية الخاضعة لبيئة طبيعية تضيّق أفق التصور، وتقيد النفس ببسائط العيش.
إن حل مسألة مصير نفس الإنسان بعد موته هو أمر شغل عقل الشعوب التي ارتقى تفكيرها، وأخذت شخصية الفرد تتميز فيها عن مجرد الشكل الإنساني العام. بل إن الاتصال بحياة بعد الموت أو الانتقال إليها ابتدأ يجد سبيلاً إلى نفس الإنسان حال ارتقائه النفسي عن حدود الحيوانية، وذلك بواسطة شعور تدل عليه عادات دفن الموتى في الشعوب والمدنيات الأولية. والدين، في أساسه وبعد ارتقائه، هو عقيدة معرفة مصدر الإنسان ومعاده ومصير الفرد الأخير. فهو من هذه الناحية، لا يكوّن نظرة إلى الحياة وا لكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي. ولكنه يؤثر أو يساعد على إبراز هذه النظرة التي يكون منشؤها الحقيقي في الاستعداد النفسي للبيئة الاجتماعية ــــ الطبيعية التي يحدد أو يوسع لها استعدادها فهم كيفية مصدر الحياة ومعادها. فنقول بكل تأكيد إن الدين، حين يصبح عقيدة أساسية تشمل المبدأ والمعاد، يصير محور جميع الأفكار الرامية إلى تكوين نظرة فلسفية في الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي. فيكون الدين واسطة لإبراز نظرة المجتمع إلى الحياة كما تصير هذه النظرة طريق تحقيق العقيدة الدينية.
عند هذا الحد من التعليل نرى وجوب تقرير هذه الحقيقة: إن الدين، من الوجهة التاريخية الاجتماعية، مسبب لا سبب، ولكنه يصير سبباً من الوجهة الوضعية بعد رسوخ العقيدة.
جميع الأديان في الدنيا تخضع لهذه القواعد التي استخرجناها من الدرس والتأمل، فإذا كنا نبحث الدين المسيحي عليها فلا بد من بحث الدين الإسلامي أيضاً بالطريقة التي تعيّنها.
قلنا في الحلقة (23) إن أغراض الدين الإسلامي الأخيرة التي تجمع كل فكرة الدين ثلاثة هي:
1) إحلال الاعتقاد بالله الواحد محل عبادة الأصنام.
2) فرض عمل الخير وتجنب الشر.
3) تقرير خلود النفس والثواب والعقاب (الحشر).
وقلنا أيضاً إن هذه الأغراض هي أساس دعوة محمد وصُلبها. وإن ما تبقى هو الأمور الشكلية التي تُتخذ وسائل لبلوغ هذه الأغراض، وهي أيضاً جوهرية، ولكن أهميتها نسبية من الوجهة الدينية البحتة. وعنينا بهذا الإيضاح أن الأغراض الدينية البحتة هي التي لا تشتمل في حد ذاتها على النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي، بل تقتصر على تعيين المبدأ والمعاد في ما وراء المادة أو بعد الموت وقبل الولادة. وبناءً على هذا التحليل تكون حقيقة الدين في الغرضين الأول والثالث. أما الغرض الثاني فهو الذي يحل مسألة الفائدة أو الضرورة لارتباط العقائد المجاوزة حدود المادة بالحياة الإنسانية في مختلف أشكالها وظروفها. وفيه تظهر النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي في تعيين الأشكال والألوان التي قلنا إنها جوهرية، مع نسبية أهميتها لغاية الدين الأخيرة التي هي إيجاد مستقر دائم للنفس الإنسانية في الله . وقد جعلنا الغرض الثاني في صلب أغراض الدين من حيث لزومه لكل فكرة فلسفية في حالة مطلقة لا تعيّن نظرة إلى الحياة والكون.
وقد بيّنا في ما تقدم من هذا البحث أنه لا خلاف بين المسيحية والإسلام في حقيقة الدين أو على الأغراض الدينية البحتة. وأثبتنا بالشواهد الكثيرة أن كتاب المسلمين نفسه يقرّ إن الدين واحد في المسيحية والإسلام، فلا خلاف بينهما في الإقرار بإله واحد خالق السموات والأرض وكل كائن حي أو جماد، وبالعودة في الأخير إلى الله حيث يكون الخلود إما في النعيم وإما في الجحيم.
مع ذلك فقد كوّن كل من هذين الدينين نظرة إلى الحياة والكون قامت عليها قواعد اجتماعية ــــ اقتصادية ــــ روحية مستقلة عن نظرة الدين الآخر وقواعده. وهذا التباين أو الاختلاف ليس ناتجاً عن تباين أو اختلاف في الدين، بل عن تباين المجتمع السوري المدني، العمراني، والمجتمع العربي البدوي غير العمراني. ويظهر هذا التباين في التفاصيل والأشكال التي لا أهمية كبيرة لها بالنسبة إلى الله والفكرة الدينية الأساسية، والتي يصير لها كل الأهمية بالنسبة إلى المجتمع واستعداده الروحي ونظرته إلى الحياة والكون. فمن الوجهة الدينية الاختلاف شكلي غير جوهري، لأن كل مجتمع قصد إقامة الخير وإفناء الشر. ومن الوجهة الاجتماعية الاختلاف جوهري أساسي، لأنه يقوم على تعريف الخير والشر وتحديدهما وطرق إبقاء الواحد وإزالة الآخر. وعلى هذه الطرق يتوقف مقدار صلاح الحياة الإنسانية الاجتماعية قبل الانتقال إلى الحياة السرمدية.
بناءً عليه لا يكون هنالك تباين أو اختلاف ديني قط، فالله يقبل الخير ويرفض الشر، خير كل مسلم ومسيحي وشر كل منهما، من غير تفريق بين خير الواحد وخير الآخر، وبين شر الواحد وشر الآخر، لأن الله ، حسب فلسفة العقيدة الدينية، لا يهتم بالأشكال بل بالأساس، هذا ذا حسبنا الله واحداً لجميع الأديان الإلهية. ولكن الذي لا يقبل كل خير ولا يرفض كل شر هو الإنسان وليس الله، فخير السوري قد لا يكون خير العربي أو خير الهندي، وخير العربي قد لا يكون خير الألماني أو الإنكليزي وغيرهم، وقد يكون خير العربي خير السلجوقي والأفغاني والمغولي وغيرهم.
الله يقبل خير المسيحي في صلاته وبره من غير وضوء ومن غير حسبان لمس النساء تنجساً، وفي الاكتفاء بزوجة واحدة وبمعموديته من غير ختان وفي عدم تحجيب النساء، وبترك الحرية للشرع ليتطور حسب تطور الإنسانية وحاجاتها. والله يقبل خير المسلم في صلاته وبره ووضوئه وتجنبه التنجس بلمس النساء قبل الصلاة وبغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس والرجلين، وبالتقيد بالشرع الثابت الجامد وبالتزوج مثنى وثلاث ورباع مع العدل بين النساء وتحجيبهن من أجل الخير. كل خير يقبله الله بصرف النظر عن شكله. ولكل بيئة خيرها: ففي الصحراء حيث الماء قليل لا يسمح بالاستحمام كل يوم يكون الوضوء وغسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين من الخير. وفي المعمور والأرض الخصبة حيث الصابون والماء غزير يصح استعماله بكثرة فالاستحمام كل يوم أو مرتين في الأسبوع مع غسل الوجه والأطراف وكل جزء من الجسم نضح منه عرق أو أصابه شي من القذارة في كل يوم يغني عن الوضوء ويكون من الخير. ومن يتفق له في سورية أن يلمس امرأة قبل الصلاة وله من تربيته ما يصرف نفسه عن الشهوات الجامحة، لا حاجة به للتطهر بالوضوء لأنه لم يداخل نفسه شي من الدنس حين الاقتراب إلى الله . ومن كان في الصحراء عازماً على الصلاة ولمس امرأة بعد الوضوء فثارت شهوته فصلاته في هذه الحالة لا تفيده لأن شعوره قد زاغ. ومنعاً لهذا الضرر يتوجب على من لمس امرأة بعد وضوئه للصلاة أن يعيد وضوءه من قبيل الاحتياط لسلامة شعوره، وهذا من الخير. ولكي نفهم نفسية العربي التي أوجبت هذا الاحتياط نورد ما ذكره قتادة، وهو: «كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع» وفي ذلك استنزل محمد القول: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها»1. فهذه حالة استعداد روحي لا تطيق قول المسيح: «إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتيهها فقد زنى بها في قلبه»2، فإن هذا التعليم المسيحي لا يمكنه أن يلاقي قبولاً في بيئة كالعُربة، لأنه يطلب من أهلها ما هو مخالف لاستعدادهم الروحي. والله يقبل هذا الخير وذلك لأنه خير. ولكن الإنسان لا يقبل الخير كله لأنه لا يدرك أو لم يدرك الخير كله. فالخير للإنسان هو ما تعوّده وتربى عليه وتكونت منه نظرته إلى الحياة، فالختان للمتمدن المسيحي ليس من الخير، وعدم الختان للبدوي المسلم أو اليهودي الذي كان بدوياً ليس من الخير. وجميع ذلك من الأمور الملازمة لفلسفة الحياة وليس لعقيدة الدين، أي للإيمان بالله الخالق الذي إليه ترجع النفوس والأمور. وحيثما انتشر دين في مجتمع مخالف في الاجتماع والثقافة الروحية للمجتمع الذي خرج منه الدين لا بد أن يطرأ على النظرة إلى الحياة التي يحملها هذا الدين تعديل أو تغيير يوافق استعداد المجتمع الروحي. والإسلام قد مرّ في هذا الاختبار، فحيث انتشر في بيئات راقية في التمدن كسورية أخذت نظرته إلى الحياة تتخذ شكلاً غير الشكل المعروف في الصحراء، فارتقت من البسائط إلى المركبات. واليوم تقول العُربة بمذهب جديد في الإسلام يرمي إلى جعل الدين عبارة عن عبادة بسيطة توافق النفسية العربية: الوهابية. والمسيحية حين دخلت الصحراء اتخذت أشكالاً بسيطة على قدر استعداد البيئة فصار شرب خمر وصارت رموز ولادة المسيح عبارة عن زواج بسيط جرى بين الله ومريم. حتى إنه قام دليل على أن بعض الاعتقادات المسيحية في العُربة قالت بتثليث الآلهة بالفعل فقالوا: «الأب والأم والابن» والمرجح أن القرآن أبطل هذا التثليث الذي جعل الآلهة ثلاثة. ودليلنا قول الآية: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله …}3 وهذا يدل على الاعتقاد بألوهية مريم أيضاً وهذا ما لا يقول به أحد من المسيحيين المتمدنين. أما النظرة إلى الحياة التي تحملها تعاليم المسيحية فلم يمكن تطبيقها ولم تجد قبولاً في البيئة العربية.
هذه هي النظرة التي جعلتنا نجزم بأن الدين يكون كله لله بدون أي تصادم بين المسيحية والإسلام، وبانتشار كل من هذين الدينين في البيئات الأكثر موافقة وقبولاً لتعاليمه. ولكن الصعوبة لقبول هذا المبدأ تنشأ من الاعتقاد بكلية المذهب الديني. فكل دين أو مذهب ديني يدّعي أنه هو الدين كله لجميع البشر، استناداً إلى كلية فكرة الله . ومع ذلك يمكن حصر هذه الصعوبة في رجال الدين أما أبناء المجتمع فيجب أن يتحولوا عن الجدل العقيم إلى فهم نفسية مجتمعهم والعمل على إسعاده، تاركين الحكم في الاختلافات الدينية لله .
أما وقد اتضح لنا جيداً ما هو الفرق بين الإيمان الديني في أساسه والنظرة الفلسفية إلى الحياة والكون التي تكوّن وسيلة تحقيق الدين، فيمكننا أن نتقدم الآن إلى درس موضوع الإسلام كدولة.
قلنا، في ما تقدم، إن دعوة محمد كانت إلى الله الذي عرّفته الكتب الدينية التي سبقت القرآن (التوراة والإنجيل) وذلك لأن معظم العرب كانوا عبدة أصنام، وفي حالة توحش شديد، إذ لم تتمكن المسيحية من جلبهم إلى الله بواسطة نظرتها إلى الحياة وقاعدتها الفلسفية المخالفة لاستعداد أهل العُربة، ولم تتمكن اليهودية من ذلك بعامل نظرها الخصوصية التي جعلت الله وقفاً على بني إسرائيل.
لم تكن دعوة محمد إلى إله جديد غير الله المعروف في التوراة والإنجيل، بل إلى إله المسيحية واليهودية أيضاً. ولكنه خطّأ تأويلات مسيحيــي العرب في سوء فهمهم ولادة المسيح وتثليث الأقانيم التي هي لإله واحد. وما أثبتناه من الآي القرآنية يكفي للبرهان على أن دعوة محمد حسبت الله واحداً والدين واحداً منذ البدء، وأن الإسلام هو إسلام الأمر لله من قبل محمد ومن بعده: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنّا كنا من قبله مسلمين}1. أي إنّا كنا مسلمين لله من قبل القرآن. ومع كل ما ورد في القسم المدني من إقامة أسباب دولة الإسلام المحمدي فإن القرآن لم يبطل الإسلام اليهودي ولا الإسلام المسيحي، ففي سورة المائدة التي ورد فيها الحديث: «المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها» لم ينقض القرآن قيمة التوراة والإنجيل فقال: {وكيف يحكمونك (اليهود) وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا… ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}2 وقال أيضاً من السورة عينها: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}1. فثّبت القرآن مرة أخرى، صحة كون التوراة مرجعاً لليهود وصحة كون الإنجيل مرجعاً للمسيحيين وأكد قوله السابق: {وهم على صلاتهم يحافظون}2 أي أنه لا حاجة بهم لتغيير دينهم مع الإيمان بالقرآن، إذ الدين واحد وأمة أصحاب الكتب المنزلة هي في القرآن «أمة واحدة» في الأصل والأساس ولكنهم صاروا أمماً بما شرع الله لكل فريق منهم: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب )والتوراة والإنجيل) ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله (أي بكل ما أنزل الله حسب ترتيبه السابق) ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم (أي لكل منكم يعني لكل فريق منكم جعلنا) شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}3.
تؤكد هذه الآيات القرآنية قولنا السابق (الحلقة 25) أنه لم يكن في بدء الرسالة الإسلامية أي اتجاه للاصطدام مع الموسويين أو المسيحيين في نزاع على ادعاء صحة الرسالة أو نقض التعاليم، وما عنيناه من بدء الرسالة هو أساسها وغرضها الأخير كما سبق لنا شرحه.
وإذا تدبرنا القرآن سورة سورة، حسب تعاقب الاستنزال، وجدنا أن السور تعاقبت في التسبيح لله وقدرته وتبشير الذين لا كتاب لهم بملكوته وثوابه وإنذار المكذبين والمبطلين بعقابه. وأخذ يثبت دعوته بالوحي الذي اشتمل على قصص ما ورد في التوراة والإنجيل. فقاوم دعوته عبدة الأوثان، وهزئوا من قوله إن الأموات يقومون من القبور يوم الحساب، فعالج حججهم وذكرهم هزوء الناس الأولين من الأنبياء والرسل السابقين، واستشهد على صحة رسالته بالكتب السابقة، كما أثبتنا في موضع متقدم، وأعطى العرب صورة الجنة ونعيمها الملائم للنفسية العربية. ولكن كرازته الطويلة لم تثمر سوى نفر قليل من ذوي النفوس الشعرية. فاضطهدته قريش فهرب وصحابته الذين التجأوا إلى الحبشة. ثم أعاد الكرّة وتابع الكرازة دون كبير توفيق، فالكلمة لم تلاقِ آذاناً صاغيةً، خصوصاً لأن الدعوة لم تشتمل على سوى ما يصيب النفس بعد الموت، فلم يعطِ ذلك للعرب شيئاً تشتغل به عقولهم ونفوسهم جملة في حياتهم، لأنه لم يكن لهم استعداد للاشتغال بما وراء الطبيعة وهم في أشد الحاجة للاشتغال بما ضمن الطبيعة، ولأن طبيعة بيئتهم ونوع حياتهم كانا دون المستوى الذي يسمح بالاشتغال بالمسائل الروحية والفكرية المجرّدة عن الطبيعة المادية والضرورات العملية. ومع أن تصوير الجنة كان بما تتوق إليه نفوسهم من النعيم المادي في ظلال وعيون وحور عين وحلل بديعة وذهب وفضة، فإن النفس العربية لم تكن مستعدة للانصراف إلى التفكير بغير الشؤون البسيطة القريبة المتناول. وقد بقي محمد يبشر وينذر في مكة مدة ثلاث عشرة سنة، أي عشر سنين زيادة على مدة تعليم المسيح، من دون أن يتبعه غير الأفراد الذين كوّنوا حلقة صحابته، فوقعت الرسالة في مأزق كان لا بد من فتح منفذ فيه إذا كان يجب أن تتابع عملها.
في المدة المكية كانت الدعوة وأغراضها قد تمت ووضحت فإذا هي دعوة إلى الاعتقاد بالله الواحد وبالرجعى إلى الله والعقاب والثواب، وبوجوب فعل الخير وتنكب الشر من غير تعيين لما هو الخير وما هو الشر إلا الإيمان بالله والكفر به، وفي عدم التعيين لما هو الخير وما هو الشر في مجرى الحياة الإنسانية لم يكن للدعوة نظرة إلى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي ــــ الروحي، وهذا كان نقطة ضعف الدعوة في الطور المكي. فدون وجود نظرة أو فلسفة تعيّن الاتجاه في الحياة فقليلاً ما يشغل أفكار المحتاجين إلى هذه النظرة ما يمكن أن يكون بعد الموت. فكان يجب أن يكون للرسالة غرض واضح في الحياة يجد محلاً في نفوس المدعوين إليها. وهذا الغرض هو بالنسبة إلى النظرة الدينية البحتة التي تدور على مسائل ما بعد الموت، هو غرض ثنوي وواسطة فقط إلى الغرض الأخير. وهذا المبدأ يشمل الإسلام والمسيحية وكل دين إلهي قال بخلود النفس والانتقال إلى الآخرة. ولذلك أجاب المسيح عالم الناموس قائلاً: «اعمل فرائض الناموس فتحيا الحياة الأبدية»1. وهكذا فرائض الإسلام فإنها ليست سوى واسطة التقرب إلى الله واكتساب رضاه لينال المسلم الخلود في الجنة الموصوفة في القرآن. ولكن النظرة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية هي من الوجهة الفلسفية الاجتماعية، أو ما يجب أن يكون لهذه الوجهة، الغرض الأساسي من الدين. ومن هذه الوجهة التي تهتم بما قبل الموت باستمرار الحياة في هذه الدنيا، ليس الدين سوى الغرض الثنوي أو الواسطة لتحقيق الغرض الأولي الأساسي، الذي هو، أو ما يجب أن يكون، حصول نظر إلى الحياة الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ الروحية تعيّن شرعة أو قاعدة يكون فيها أكثر الخير والصلاح للمجتمع بمعنى الواقع الاجتماعي الذي أشرنا إليه آنفاً.
ولمّا لم يكن محمد فيلسوفاً اجتماعياً بل نبياً إلهياً، فإن نظرته هي النظرة الدينية وغرضه الأخير هو إقامة الدين. وكل نظرة أخرى يجب أن تكون مجرد نظرة ثنوية أو واسطة لإقامة الدين والوصول إلى خلود الجنة وبناءً عليه نقول بتأكيد إن حقيقة الدين وأساس الدعوة المحمدية هو ما اشتمل عليه الطور المكي الذي هو الطور الروحي، المنزه عن شؤون العالم الدنيوي، المتجه نحو مقر النفس الأخير في ما وراء المادة، وإن الاتجاه الدنيوي الذي سلكه الطور المدني ليس سوى الواسطة أو الطريق للقضاء على عبادة الأصنام وإقامة الفكرة الدينية لإتمام الغرض الديني الأخير الذي اكتمل في المدة المكية.
قلنا إنه بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة إلى الله من غير نجاح في الجماعات والجماهير، وصلت الرسالة إلى مأزق لم يعد ممكناً لها التقدم فيه بواسطة مجرد التبشير والإنذار، وصار من اللازم اتخاذ خطة أخرى. ولا شك في أن محمداً فكر ملياً في ما يجب فعله، ووضع خطة عقد العزيمة على تنفيذها وقد اشتملت هذه الخطة على الخطوط النفسية العربية والتفكير العربي التي نرى، عند التحقيق، أنها توازي خطوط النفسية العبرانية والتفكير العبراني قبل أن أثرت المدنية السورية على العبرانيين تأثيرها الكبير. ولذلك نجد موازاة تكاد تكون تامة بين خطة إقامة الدين الإسلامي وخطة إقامة الدين اليهودي، وعلاقة وثيقة بين القرآن والتوراة، وقد أشرنا إلى هذه العلاقة وأسبابها في حلقتين سابقتين (15 و16).
في العهد المكي كان الخير والصلاح كله في الإيمان بالله، والشر والطلاح كله في الكفر بالله وعبادة الأصنام (الشرك). هذا كل ما يذكره القرآن من الخير في المدة المكية إلا آيات قليلة أولية في أواخر المدة كقوله في سورة العنكبوت وهي قبل الأخيرة من العهد المكي: {ووصّينا الإنسان بوالديه حُسناً}1 التي توازي «أكرم أباك وأمك»2 في التوراة وكقوله في سورة المطففين: {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}3. وفي ما سوى ذلك وما شابهه لا تعيين لخير أو شر غير الإيمان بالله أو الشرك به. وهذه الفكرة الأولية وحدها ما كانت كافية لإنشاء ملّة ذات إيمان جديد من عبدة أصنام. ولعل خلو القسم المكي من تعيين الخير والشر ونظرة إلى الحياة والعالم كان اعتماداً على أن ذلك موجود في الكتب المتقدمة، في التوراة والإنجيل اللذين أوجب القرآن على المسلمين الإيمان بما جاء فيهما. وجميع سوَر هذا القسم تدل على أن القضاء على عبادة الأصنام وجلب العرب إلى عبادة الله الذي تقدمت محمداً رسلٌ بالدعوة إليه وتبيان سبله، كانا الغاية القصوى من الدعوة المحمدية، فليس في القسم المكي غاية غيرها، لا كلية ولا جزئية وسوَر القسم المكي (85) أو (86) سورة نزلت في ثلاث عشرة سنة وكلها تبشير وإنذار ووعد ووعيد في ترتيل شعري مستمر. وهذه هي الوجهة العامة من الإسلام. وهي لم تكوّن فكرة فلسفية تشمل الحياة الإنسانية بمناقبها ومثالبها وروحيتها وماديتها واجتماعياتها واقتصادياتها ومثلها العليا. فكان لا بد من إحدى طريقتين: إما أن يعلن محمد أن هذه الفكرة الفلسفية موجودة في التوراة أو الإنجيل أو في كليهما، فتكون دعوته بمثابة دعوة إلى هذين الكتابين، وأما أن يُوجد الفكرة أو النظرة التي يمكن أن تكوّن للعرب قضيتهم الروحية ــــ الاجتماعية. فاختار محمد الطريقة الأخيرة، لأنه كره تذبذب اليهود ونفاقهم. ولم يجد استعداداً في العرب للنظرة المسيحية التي كانت مضطربة عند مسيحييهم. والحقيقة أنه كان لا بد من الاستقلال بتعيين طريقة الحياة الجديدة للعرب نظراً لخصائص بيئتهم. ومن جزم محمد بالطريقة الثانية نشأ الطور المدني الذي أخرج الدعوة من ملل تكرار تراتيل التسبيح والتبشير والإنذار والحمد والحض والتهويل، إلى الشرع وإقامة حدود المعاملات والعقود التي ترفع مستوى الحياة العربية وتضبطها. ولمّا كان العرب كلهم، إلا بعضهم، أميين وبعيدين عن الثقافة والعلم كان لا بد من إقامة الدولة لإخضاعهم للشرع وضبط تصرفاتهم.
هاني بعل
للبحث استئناف

نصوص الإسلام كدولة

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (34)، 15/12/1941م


ابتدأ الطور الثاني، الأخير للدعوة الإسلامية، بهجرة محمد والصحابة (المهاجرين) إلى المدينة. وأول سورة نزلت بعد الهجرة أعطت الإسلام اتجاهه الجديد الذي أوجد المذهب العربي في الحياة المثلى، مستخرجاً من حياة العرب وحاجاتها، وهي سورة البقرة [رقم 2].
أول سورة البقرة عوْدُ على بدء الدعوة، ففيه تكرار التبشير والإنذار والوعد والوعيد: {يا أيا الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون}1… {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}2. هذه الآيات مثلٌ من أول سورة البقرة ويأتي بعده إثبات ذكر خلق آدم وإسكانه الجنة مع زوجه ثم سقوطهما من الجنة. فيكون هذا الذكر تمهيداً للعامل السياسي الذي يظهر حالاً، بمخاطبة يهود العرب الذين منهم عدد كبير في المدينة: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وأياي فاتّقون}3. وتتابع السورة مخاطبة بني إسرائيل، مذكّرةً إياهم بفضل الله عليهم وتنجيتهم من آل فرعون وإخراجهم من مصر وتنزيل «الكتاب والفرقان» على موسى، وكيف اعتنى الله بهم في التّيه، وظللهم بالغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى، كما هو مذكور كله في التوراة. ثم كيف كفروا وعبدوا العجل، وعاد الله فتاب عليهم، وأشياء غير ذلك من قصص اليهود، ثم تقطع، السوَر هذه القصص لتضع هذه الآية: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}1. فيستأنف القصص بعدها، ثم تذكر السورة جهل العرب اليهود الأُميين بالدين: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون}2 وهذا يصدق على العرب المسيحيين والمسلمين أيضاً، كما ورد بعد في سورة التوبة وأثبتناه في حلقة سابقة. وتأتي آية أخرى تنذر الذين استغلوا أمية المؤمنين بالتوراة ورووا الكتاب على هواهم: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}3. وفي استمرار معالجة حال اليهود تأتي هذه الآيات: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون. وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون. ولمّا جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستتفحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}4. وهذه الآيات تطلب من اليهود أن لا يجحدوا رسالة محمد وتحاجّهم بأغلاطهم السابقة ضد المسيح وتحذرهم من عاقبة رفض الإيمان بالقرآن، وتتابع السورة مجادلة «أهل الكتاب» في صحة الدعوة المحمدية ووجوب الإيمان بها وأنه ليس صحيحاً أن الإيمان يختص باليهودية أو بالنصرانية، فتتخلص من هذه المجادلة إلى هذه النتيجة: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}5 وهي نتيجة كلية تجعل كل إيمان بالله حقاً فلا يكون الدين وقفاً على مذهب دون مذهب، وهي نظرة صائبة إذا أضيف إليها ما ورد في سورة المائدة وأثبتناه في الحلقة السابقة {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً… إلى الله مرجعكم جميعاً}6 فالنتيجة الفكرية كاملة تامة لا يرفضها إلا المتعنتون من مسلمين ومسيحيين وغيرهم. ولكن، بكل أسف نقول، أن كثيراً من المجتهدين والمفسرين المسلمين ومسيحيين وغيرهم. ولكن، بكل أسف نقول، إن كثيراً من المجتهدين والمفسرين المسلمين لا يؤدون واجب الأمانة لهذه النتيجة التي ينص عليها دينهم فيلجأون إلى نصوص أخرى مناقضة لها مناقضة ظرفية ليبطلوا حقيقتها.
ثم تأتي في هذه السورة مسألة تغيير القِبلة، إذ كان محمد يتجه في صلاته إلى أورشليم، فلما وجد إعراض اليهود عن دعوته ورفضهم ورفض المسيحيين الإقرار باستقلال دعوته وصحة نبوته، كما تدل عليه الآية: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}1 عدل عن قِبل أورشليم وجعل مكة قِبلته الجديدة. واستنزل في ذلك الآيات وفيه عامل سياسي كبير من استرضاء قريش، سادني الكعبة، كما فيه اتجاه لتوسيع الاستقلال عن اليهود وجعل الإسلام المحمدي ملّة منفصلة عن ملّتي اليهودية والمسيحية. وبعد تخلّص من هذه الفكرة الجديدة تنتقل السورة إلى التمهيد للاتجاه الجديد، الذي هو اتجاه الحزبية الدينية ضد حزبية قريش الوثنية. وأول آية في هذا الباب قوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}2 ثم يتلو هذه الآية إعداد النفوس للحرب: {ولنبلونّكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}3. ثم يجي التمهيد للشرع بقوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتَّبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}4 وكانت «خطوات الشيطان» شيئاً غير واضح فجاءت أي أخرى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}5. ومع ذلك بقي الشر غير واضح فلا علم بما هو السوء أو الفحشاء، إلا أن يكون الكفر بالله فقط، كما بيّنا سابقاً. ولكن الأمر لا يطول حتى يأتي التشريع. والسورة تدخل فيه هكذا: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}6 فكان ذلك أول الشرع الضابط للتصرف. وهو ليس شديداً، إذ فيه صمام يزيل الضغط الشديد في مسألة المآكل وهو قوله: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه}7. ويقف التشريع في آية التحريم المذكور، فتنتقل السورة إلى إنذار الذين {يكتمون ما أنزل الله من الكتاب}8. فتأتي أي تشبه التعليم المسيحي والوصايا الموسوية: {ليس البِرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى والزكاة والموفّون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}1. فلا تنتهي هذه الآية حتى يعود التشريع على خطط التوراة: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحُرُّ بالحر والعبد بالعبد}2، ثم تأتي آية تشريع في حقوق التملك: {كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين}3. وهذا التشريع ناقص كثيراً فتتركه السورة عند نقصه لتتناول أمراً آخر هو فريضة الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}4، وبعد آيات تبين كيفية الصيام ومواقيته وجعل الأهِلّة مقياس الوقت والحساب، تنتقل السورة إلى إعلان الحرب والتحريض على القتال والأمر به بصورة واضحة: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}5 وتقفو هذه الآية آيات في كيفية القتال سندرسها مع هذه فيما يلي:
بعد التحريض على القتال تعود السورة إلى الشرع فتبيّن واجبات المؤمن من حج وعمرة وشروط ذلك، ثم يأتي وعد ووعيد وتهويل وغير ذلك، ثم تأتي عودة إلى القتال وتوكيده: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}6 فجعل القتال فريضة شرعاً، ثم بعد فرض القتال عودة إلى الشرع المدني فيحرم الخمر والميسر تحريماً غير قاطع. ثم يأتي أول تشريع في الزواج وأحواله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأَمَة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة…}7 وتتلو ذلك آيات المعاملات والعقود في الزواج والطلاق وقد أثبتنا بعضها في حلقة سابقة (الحلقة 15) ثم عودة إلى التحريض على القتال وضرب أمثاله ببني إسرائيل: {ألم ترَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عَسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين}8 وتعقبها حكاية تمليك شاول وقتال داود وجليات ليقوى إيمان المسلمين بأن الله لا يتخلى عن أتباعه ولجعل قاعدة عامة تبرر القتال إذ قد سبق وقام به اليهود. ولكي لا يكون المثل موجباً للتشبه باليهود جاء القول: {تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}1 وهو مستند لما سيجيء من تفضيل الإسلام الخاص بمحمد على غيره.
تأتي بعد ما تقدم وصايا، ثم الآية: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}2. ثم يأتي توكيد البعث مسنوداً إلى مثل من إبراهيم، وبعدها يأتي حث على الخير ووصايا في أشكال قريبة من الوجه العملي. ثم تشريع في تحليل البيع وتحريم الربا. ويتعاقب الحث والتشريع في المعاملات والعقود وشروطها. وتختم السورة بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}3 وآية أخرى في طلب رحمة الله .
هذا هو بدء العهد المدني وفيه أساسه وغرض اتجاهه الجديد. وهذا الاتجاه هو: استخراج النظرة العربية (الصحراوية) إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والروحية وهي النظرة التي عرفناها في الحلقة السابقة. ففي هذا العهد ابتدأ تعيين ما هو خير وما هو شر، وإلى جانب إيجاد هذه النظرة أوجدت العصبية الدينية ضد اللادينيين أو اللاإلهيين.
(ضاق نطاق هذا العدد من استيعاب كل مواد هذه الحلقة فنأتي على بقيتها في العدد القادم).
هاني بعل
للبحث استئناف

في الدولة والحرب الدينية


(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (35)، 1/1/1942م


أما النظرة إلى الحياة فقد جرت على خطوط النفسية العربية المماثلة لخطوط النفسية اليهودية لعهد موسى، وقبل دخول اليهود في الحضارة السورية واقتباسهم من نظرتها إلى الحياة وفلسفتها. ونصت آيات صريحة على الاقتداء باليهود واتخاذهم مثلاً، كما بيّنا آنفاً. وقد بيّنا في بعض الحلقات السابقة التماثل التشريعي بين الإسلام المحمدي والإسلام الموسوي (15 و16). ولكن هذه المشابهة ليست كلية، ففي الشرع دخلت الخصائص والضرورات العربية التي كان اليهود آخذين في الخروج منها والاتجاه عنها إلى الحضارة السورية التي أوشكت أن تهضمهم تماماً، حتى إن السريانية صارت، في أواخر عهدهم، اللغة الغالبة على لسانهم. وهذه الضرورات والخصائص لا تبطل الموازاة التامة تقريباً في الخطوط الكبرى للنظرة إلى الحياة، فالوضوء، مثلاً، قد حدد الاغتسال نظراً لقلة الماء في العُربة، بينما التوراة أطلقته جرياً على قاعدة التمدن السوري «اغتسلوا تنقوا»1.
قلنا في الحلقة السابقة وما قبلها إن العهد المدني كان الخطوة الفاصلة لإخراج الرسالة المحمدية من المأزق الذي وقعت فيه، وبيّنا أن القصد من آياته المؤلفة النص الدولي هو إقامة الدين واستئصال الوثنية، وليس محاربة أهل الأديان غير المحمدية حتى يتخلوا عن إسلامهم ويتبعوا الإسلام المحمدي.
وكما أن أول سورة مكيّة دلت على غرض الرسالة الديني وأساسها كذلك دلت سورة البقرة التي هي أول السور المدنية على الغرض الدولي. فأول أمر بالقتال كان قوله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}2 فخصّ القتال باللذين يقاومون الدين بالقوة ويقاتلون أتباعه. فالدعوة إلى القتال، في أساسها وغرضها الأخير، لم تكن في صلب الدعوة الدينية إلى الله ، إذ خلا منها العهد المكي خلواً تاماً وليست في العهد المدني مطلقة من كل قيد أو شرط وعامة لمحاربة المسلمين غير المحمدين أيضاً، بل مقيدة بشرط أن تكون ضد الذين يقاتلون المؤمنين ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ليمدوا ظلمة الوثنية.
وقد يقول قائل إن الجهاد مذكور في القسم المكي أيضاً، فنقول صحيح ولكنه هناك ذو معنى روحي فقط، فالقصد منه الجهاد للإقناع والسلاح الكلمة وليس السيف، كقوله: {فلا تقطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً}1.
ولما كان الأمر بالقتال هو لإقامة الدين وليس لنقضه، فإن من الكفر بالله والهدم للدين الصحيح القول إن آيات القتال لاستعلاء الملّة المحمدية أو لدفع الشر عنها قد نسخت آيات الدين وحلت محلها، فالقتال فرض لإقامة آيات الدين، لا لمجرد القتال أو لحب القتل ولذلك قالت الآية: {تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}2.
وقد قلنا في سياق ما تقدم من هذا البحث إن الآيات الدولية في الرسالة المحمدية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحوادث الجارية، وهذه الحقيقة يجب أن تظل نصب أعيننا في كل درس صحيح لنصوص الإسلام المحمدي كدولة. ولهذه الحقيقة تخضع آيات [القتال فقد استنزل محمد آيات القتال]3 لأنه وجد من بادأ المسلمين القتال واضطهدهم، فأصبح القتال مربوطاً بشرطية وجود من يطلبون مقاتلة المؤمنين من المشركين.
أما الآيات التي قلنا إنها تقفو أول آية أمرت بالقتال فهي هذه: {واقتلوهم حيث ثقفتوهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}4. وهذه الآيات توضح جيداً أن القتال كان دفاعياً، وليس هجومياً، وضرورة قضت بها عداوة المشركين. وقوله: {الذين يقاتلونكم}5 يعني أعداء الدين الذين يقصدون إبطاله ومقاتلة المؤمنين حتى ولو لم يباشروا القتال رأساً. ذلك لأن عداوتهم واضطهادهم المؤمنين ثابتان. وقد جعل القرآن الاضطهاد أعظم من القتل: {الفتنة أعظم من القتل}6. والفتنة هنا بمعنى المحنة، كالإخراج من الوطن. ولذلك قال: {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم}7. وأيد غرض القتال الذي أوضحناه بقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}8 أي لإزالة الاضطهاد ومنع العداوة المؤذية ولإقامة دين الله والقضاء على عبادة الأوثان. فمتى صار الدين لله لم تبقَ حاجة إلى القتال الديني وصار يجب العودة إلى الفكرة الدينية الصافية الموضحة في القسم المكي: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}1 {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً وعاقبةً للمتقين}2، فهنا الدين. أما القتال فليس للدين بل ضرورة لإقامة الدين أوجبتها حالة البيئة.
وتأييد القرآن هذه النظرة هو تأييد جازم متكرر، فقال: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله …}3 أي إن القصد من القتال ليس الإكراه بل دفع الفتنة والعدوان. ولذلك قفى آية فريضة القتال بهذه: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}4. فهو يدل على مقدار استحكام العداوة حتى ضاق محمد ذرعاً بكثرة اضطهاد المشركين لدعوته وأتباعه وإمعانهم في الفتنة، فاستنزل هذه الآية ليجد مخرجاً للضيق الذي وقع فيه أتباعه. ولولا كثرة ظلم قريش ومقاومتهم الكلمة بالاضطهاد لما كان الوحي استوجب الالتجاء إلى هذه المعاملة.. فالآية مربوطة بحالة معينة يبقى حكمها فيها. وجاء في سورة الممتحنة [رقم 60] التي تأتي بعد البقرة [رقم 2] بثلاث سوَر وهي الرابعة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون}5. ومعنى هاتين الآيتين أن الله لا ينهى المؤمنين عن مساواة الذين لم يقاتلوهم وينحازوا إلى مقاتليهم فهؤلاء يمكن حتى توليتهم وتقديمهم وإن كانوا مشركين (وثنيين). وقد أوضحت هاتان الآيتان المقصود من المقاتلة والعداء فهما ضد من «يقاتل في الدين» لا غير.
اقتضت العداوة الموجدة الحرب السير بالملّة على قاعدة العصبية الدينية وجمع كلمة المؤمنين في نظام دولة، فاهتمت الرسالة بشؤون الحرب والسلم وتوزيع الغنائم. وهذا الأمر الأخير كان من الأهمية بمحل خطير، لأن طلب الغنائم كان من أهم قواعد قيام الدولة في بيئة فقيرة جداً، والخلاف على قسمتها قد يستفحل ويؤدي إلى تفرق كلمة الأتباع، كما اختلف المسلمون في واقعة بدر على الغنائم كيف تقسم ومن يقسمها. فكان الاهتمام بهذه الناحية أول ما عرضت له سورة الأنفال [رقم 8] وهي الثانية من العهد المدني، وفي هذه السورة شرع تخميس الغنائم. وكان من ضرورات إقامة الدولة إيجاد مبدأ الطاعة للسلطة العليا التي لا تقوم دولة إلا بها فجاء الأمر بالطاعة في الأنفال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون}1 وأيضاً: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم…}2 وجاء النهي عن الخيانة: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}3.
وتعود الرسالة في هذه السورة إلى شأن القتال، فتؤكد مرة أخرى تخصيصه بالكفار الذين لا يؤمنون بالله : {قل للذين كفروا أن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سُنَّة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير}4.
أخرج النهج المدني الدولي الرسالة المحمدية من مأزقها فأخذ المؤمنون يشعرون بوجود نظام يؤمنهم على حصصهم من الأسلاب والكسب، بعد أن كان ذلك خاضعاً للأثرة والقوة، وشرع يزيل معاثرهم ويحدد معاملاتهم. فأخذت شوكة الدولة تقوى بالمغازي والغنائم، وبقوة شوكة الدولة أخذ الدين يتحرر من الاضطهاد ثم أخذت الدولة تعتز بدينها ونظرتها إلى الحياة التي فتحت أمامها طريق التقدم العملي. والحقيقة أن فاعلية الدولة كانت أقوى من فاعلية الدين نفسه، بل صارت آيات الدولة عند العرب في مقام الدين ولم يقدروا أن يفهموه إلا بها، فاهتدت الرسالة إلى منهاجها العملي في بيئتها فسارت عليه بخطوات أكيدة. وبتقدمها لم يعد يجد الوحي حاجة للتودد إلى «أهل الكتاب» العرب والتساهل معهم فصارت لهجة سلطة الدولة تحل رويداً رويداً محل لهجة من لا سند له غير عقيدته. فكثر التحريض على القتال وخرجت الرسالة إلى طلب إعلاء الإسلام المحمدي على الأديان جميعها: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}5 وهذه الآية مكررة في (الفتح)6 وفي (التوبة)7. ولكن هذا القول لم يبطل صحة الإسلام المسيحي والإسلام اليهودي، كما بيّنا في الحلقة السابقة، إذ وردت بعد سورتي الصف والفتح سورة المائدة التي أثبتت وجوب اعتبار التوراة والإنجيل صحيحين لأهلهما. ونظراً لورود هذه الآيات في كتاب واحد فالارتباط بينها وثيق ولا يمكن اعتماد مبدأ النسخ لإبطال الآيات المتعلقة بصحة التوراة والإنجيل، فإن هذا المبدأ ينقلب ضد هذا الاستنتاج ويجعل حكم آيتي (الصف) و(الفتح) منسوخاً بحكم آيات (المائدة)، لأنها بعدهما. أما سورة التوبة فمختلف فيها ويرجح إلحاقها بسورة الأنفال. وهذه السورة عينها، التوبة، تؤكد صحة التوراة والإنجيل بالعودة إلى الاستناد إليهما مع القرآن بقول الآية: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله …}1 وهو يثبت أن ما أعلنه الله في التوراة والإنجيل ثابت عنده. وقد أظهرنا في حلقة سابقة فساد مبدأ النسخ، لأنه يعرّض كلام الله كله والإيمان كله للشك، فلا يعلم المؤمن، على وجه التحقيق ما هو ثابت من كلام الله وما هو غير ثابت. وإذا كان الله يقول قولاً غير أكيد ولا ثابت، فلماذا يقوله؟ ولماذا قال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب…}2.
الحقيقة في هذه الأمور أن ضروريات قيام الدولة ونفسية العرب هما غير الدعوة الدينية. والدولة قامت لإثبات الدين وآياته وليس لنفيها ولا لنسخها. والقتال فرض ضد الذين «يقاتلون في الدين». أما حيث لا قتال في الدين {فلا تعتدوا}3. وهذا نص واضح لا جدال فيه، فإذا كانت هذه الآيات باطلة، لأنها من سورة البقرة وسورة الممتحنة فلماذا لا تكون هاتان السورتان باطلتين فتحذفان ويحذف القسم المكي كله من القرآن. وما هي حاجة المؤمن إلى وجود كلام باطل في كتاب الله ؟
وإذا كان الإسلام المحمدي يجيز الإيمان ببعض القرآن والكفر ببعضه فكيف يطالِب المسلمين الموسويين أو المسلمين المسيحيين بوجوب إقامة التوراة أو إقامة الإنجيل كاملين؟
وجميع آي القسم المدني لا تنص نصاً صريحاً على إبطال المذهب المسيحي في شي منه، بل بالعكس تطلب الحكم بكتابه. أما ما يتذرع به بعض المنافقين ليوهموا المسلمين المحمديين أنه قد أبطلت المحمدية المسيحية كقوله: {إن الدين عند الله الإسلام}4 وقوله: {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}5 فهو على غير ما يؤولونه لأغراضهم، فالإسلام ليس مختصاً بالمحمديين، بل يطلق على اليهود والمسيحيين كذلك، لأنه حسب رواية القرآن نفسه، ابتدأ بإبراهيم، ولا يمكن هؤلاء المعوجين للإيمان أن يثبتوا دعاءهم الباطل إلا بإعلان الكفر ببعض القرآن نفسه، فليقولوا قولاً صريحاً أي قسم من القرآن يجب أن يكفر به المؤمنون وينبذوه ظَهرياً نقل لهم حينئذٍ في أي ضلال يعمهون.
ألا أن غرض الحياة الدنيا بغيتهم، يراؤون في الدين، والدين بعيد عن قلوبهم، هو يمنعهم من الفتنة وهم يطلبونها.
قال في القرآن: {كتب لله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز}1 وهي من أواخر العهد المدني. ويقول المنافقون: «إنّا قد محونا ما كتب الله » عليهم لعنة الله والناس أجمعين بما يقولون على الله غير الحق.
إن القول: «الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها»2 هو قول استبدادي لا يعبّر عن حقيقة الديانة الإسلامية بل عن فساد تأويلها ببعض آيها. وكذلك القول: «هل نسوا وعد الله لهم بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟»3 فهو باطل فإن الله وعد بني إسرائيل بتمكينهم في الأرض وذلك في عهده لإبراهيم ويعقوب: «قم امشِ في الأرض طولها وعرضها لأني لك أعطيها»4، {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيــي نساءهم إن كان من المفسدين. ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}5 {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}6 وقال كذلك: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}7، فبأي وعد يجب التمسك؟ فإذا كان الوعد الأخير هو للمسلمين المحمديين فقط فما هي قيمة ما ورد في التوراة وفي سورة القصص؟ هل وعد الله بني إسرائيل بالباطل؟ فإذا كان الأمر هكذا أفلا يجب أن يكون الوعد الأخير من نوع الوعد الأول، لأن الله الذي يعد ويخلف مرة يعد ويخلف أخرى. والذي نراه أن هذا الوعد يتعلق بأرض الجنة، والدليل قوله: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين. وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين}1 فالأرض، في القسم الديني المنزه عن الأغراض الدنيوية، هي الجنة لا غيرها. وأهل الدين الصحيح هم الذين يرثون الجنة لا الأرض الدنيا لأن هذه ليست غرض الدين. وأما قوله: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطأوها وكان الله على كل شي قديراً}2، فهو من شؤون الدولة والحرب مع المشركين وهو شبيه بخطط اليهود «يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم فترثون شعوباً أكبر وأعظم منكم»3. وها قد مرت آلاف السنين على وعد الله لإبراهيم ويعقوب وموسى، وها الألف الثاني يزول على وعد الله لمحمد ولم يتحقق من هذين الوعدين سوى ما كان ضرورياً لإقامة الدولة الدينية ضمن نطاق بيئتها. واليهود لا يزالون يتشبثون بوعد الله لهم بتمليكهم الأرض كلها، والطامعون بالتملك باسم الدين من المسلمين المحمديين يزدادون تشبثاً بوعد الله المؤوَّل عندهم ليحرضوا المؤمنين على تأييدهم في طلب الملك وإقامتهم في الحكم. ولو شاء الله إيفاء وعده على ما يشتهي المتشبثون لكان فعل منذ زمان في أول عهد الإيمان الصافي المملوء حمية، في زمن فتوة الدعوة، حين كان الإيمان جديداً، قوياً حاراً. وهو أجمله وأفضله. والحقيقة أن الله قد برّ بوعده وأعطى اليهود والمحمديين ما قسم لهم، فنال الأولون نظاماً وشرائع ومرتزقاً؛ ونال الآخرون نظاماً وشرائع ومرتزقاً ونصرة على عبدة الأصنام فورثوا أرضهم وديارهم وتمّ الدين: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}4. فقد جاء النصر على أهل الشرك ودخلوا في دين الله وبادت عبادة الأصنام من العُربة، فتم العهد المدني وأصبح من اللازم العودة إلى إقامة الدين بالتسبيح والاستغفار التي كانت الأصل والغاية من الدعوة. فما جاء في سورة النور وهو قوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليُبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}5 قد حصل بتمامه، فقد استخلف الله المحمديين في أرض الوثنيين وورثوهم وجاء نصر الله والفتح، ولم يبقَ بعد ذلك غير عبادة الله واتقائه حق تقاته: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}6. والذين يبغون وراء ذلك هم الذين يريدون إخضاع الدين لشهواتهم الدنيوية ويرفضون أن يخضعوا لأوامر الدين وتعاليمه العلوية.
هاني بعل
للبحث استئناف

الدين والدولة

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (36)، 15/1/1942م


رأينا في ما تقدم أن القصد من إقامة الدولة الإسلامية المحمدية هو إقامة الدين الإلهي في أرض كان أهلها لا يزالون في ضلال مبين عن الله وكلمته، فالدولة أنشئت لغرض الدين وليس الدين هو الذي أنشى لغرض الدولة. وهذه القاعدة هي أساس كل فكرة دينية في الاجتماع والسياسة. ولا يمكن أن يكون العكس إلا بهدم الفكرة الدينية الأساسية وإبطال الدين، فاستخدام الدين للدولة معناه أن الدين واسطة لا غاية. والواسطة تزول، أما الغاية فتبقى. فإذا كان الدين واسطة فقد أصبح زائلاً بعد إقامة الدولة، أو على الأقل أصبح آلة ثنوية، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن ننظر إلى الاجتماع كأساس، وبناءً عليه لا يعود من الممكن الاحتجاج بالآيات الدينية لتسيير المجتمع، لأن هذه الآيات تكون قد فقدت صفتها الدينية. وأقل نتيجة لهذه الطريقة التفكيرية هي القضاء على الدين. ولما كان قصد رسالة محمد الدين وليس السياسة، أو فلسفة الاجتماع التي ترتقي بالعلوم الاجتماعية، فلا بد من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاية، وأن قيمتها لا يمكن أن تكون، من الوجهة الدينية، أكثر من قيمة واسطة. وبناءً عليه تكون الدولة الشي الثنوي القابل للزوال عندما لا تبقى حاجة إليه شأن كل آلة أو واسطة أدت الغرض من وجودها. وفي متاحف العالم الآلية قاطرات بخارية ومراكب من كل صنف قد أدت خدمتها ولم تعد صالحة للاستخدام لوجود آلات حديثة أحسن منها.
وكذلك في متاحف العالم الاجتماعية دول كثيرة معروضة لدرس تطور الاجتماع الإنساني، ولم تعد تصلح لغير ذلك، ومن جملتها الدولة الدينية التي أدت غرضها من زمان وأصبح يوجد أحسن منها الآن لخدمة المجتمع الإنساني فلم يبقَ حاجة إليها لغير الدرس ومعرفة التاريخ.
الدولة الدينية المحمدية كان غرضها الوصول إلى إبادة عبادة الأصنام في العُربة، وإقامة دين الله وقد حققت هذا الغرض فبادت عبادة الأصنام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، والإسلام المحمدي هو اليوم دين يعتنقه ملايين الناس، ولا خطر عليه من صناديد قريش أو غيرهم. والإنسانية تسير اليوم على غير طريق التطاحن الديني، ومعظم الناس وكل المتمدنين يحترمون ويتعلمون احترام عقائد بعضهم البعض المتعلقة بالنفس والخلود والله . والمسلم المحمدي يقدر أن يمارس دينه في أي قطر نزل فيه وإن يكن غير محمدي. ولولا اضطهاد قريش النبي والصحابة لما كان هنالك سبب للهجرة إلى المدينة واستغلال ميل أهلها إلى منافسة قريش لإنشاء دولة محمدية تحارب قريشاً وتخضعهم. فلما ثبّتت الدولة الدين تم غرضها، وأصبح على الناس الاهتمام بشؤون دينهم الجوهرية التي هي عبادة الله والسير حسب وصاياه، فلا قتال مع الذين لا يقاتلون المؤمنين، ولا إخراج لمن لا يريد إخراجهم من ديارهم باسم الدين أو لغاية دينية: {وما اختلفتم فيه من شي فحكمه إلى الله}1.
هذا ما يجب أن يعلمه المسلمون المحمديون والمسلمون المسيحيون والمسلمون الدروز، والدروز قد أقفلوا باب الدعوة ليكون لكل إنسان ما اعتقد.
بيد أن رجال السياسة الشخصية الذين لا يهمهم دين ولا دنيا إلا ما شاءت أهواؤهم، ورجال العلم القليل، يقولون بالعكس، ويحرّفون الكلم عن مواضعه ويؤولون الدين على حسب أهوائهم. وصاحبا مدرسة الرجوع إلى الدولة الدينية المحمدية وتلاميذهما أمثال السيد شكيب أرسلان يؤولون الآية: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}2 على هذه الوجهة السياسية: «ومن الأوامر الشرعية أن لا يدع المسلمون تنمية ملّتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله »، وهذا الاجتهاد باطل فالآية لا تقول: «أن لا يدع المسلمون تنمية ملّتهم» (بالقتال ضمناً) بل أوجبت مقاتلة: {الذين يقاتلونكم في الدين}3، وهذا الشرط هو سابق لجميع آيات القتال، فهو شرط لها كلها، وما جاء بعد يجب فهمه بهذا الشرط وفي ظروفه. ولولا ذلك لأمكن القول إن جميع المحمديين الذين عاشوا منذ مئات السنين لا يقاتلون جيرانهم ولا يكرهونهم على الإسلام المحمدي هم كفار، وبذلك انتفاء وجود الملّة المحمدية، وهو قول باطل لكل متدبر للقرآن، غير آخذ ببعضه دون بعض. وقد قال صاحبا (العروة الوثقى) هذا القول الباطل بهذا الشكل: «كل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله ». فمن هو الذي يهاجم الله اليوم؟ {إن الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم}4 لإقامة الدين والكتاب حيث لا دين ولا كتاب. وفيما سوى ذلك فإن الله: «غني عن العالمين ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه». أما قولهما: «فما لنا نرى الأجانب يصولون البلاد الإسلامية صولة بعد صولة» فهو محال، لأن الأجانب لم يختصوا ولا يختصون بلاد المحمديين بالصولة عليها، بل يصولون على كل بلاد أمكنهم إخضاعها، مسيحية كانت أو محمدية أو بوذية أو برهمانية أو غير ذلك. إنهم لا يقاتلون في الدين.
إن هؤلاء الذين لا يتدبرون الدين ينقضون الدين بتسخيره للدولة، غير مهتمين إلا بالنصوص الدولية التي وجدت لغرض معين قد تمّ. ثم يحتجون بالدين لإقامة سفسطتهم، فكأنهم يريدون من الدين أن يوافقهم على إبطاله، أي أن ينتحر، بينما هم يدّعون أن في قتل الدين إحياء الدين! إنهم لا يفتأون يرددون مثل هذه الآية ترديد الببغاوات: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه}1 والآية: {إن الدين عند الله الإسلام}2 والآية: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله}3. وقد رأينا في ما تقدم من هذه الحلقات أن الإسلام ليس مختصاً بالمحمديين، بل شاملاً أهل الكتاب من أيام إبراهيم. فالموسويون مسلمون [لله ] والمسيحيون مسلمون لله والمحمديون مسلمون لله . أما قوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} فجواب على الذين قالوا إنه كذّاب، وتقوية لروح أتباعه وإن كان فيه متابعة لإنجيل برنابا الذي كان في المسيحية أشبه بمسيلمة في المحمدية، فقال إن يسوع ليس المسيح ووضعه من المسيح، الذي سيأتي بعد، على رأيه، في مقام يوحنا المعمدان من المسيح وقال إن المسيح الذي يأتي بعد يسوع يدعي بما يصح أن يترجم بمحمد وأنه يكون فوق جميع الرسل. وفي كل حال لا ينقض هذا القول إن الله أنزل التوراة والإنجيل وقوله: {قل يا أهل الكتاب لستم على شي حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}4 وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر (أسلم) وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}5، وقوله: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}6. وهذه الآية الأخيرة هي من أواخر ا لعهد المكي، أي بعد نحو ثلاث عشرة سنة من الاستنزال، وفيها نص صريح بأن الإسلام هو لإله واحد للمحمديين والمسيحيين، فكل من آمن به فهو مسلم سواء أكان مسيحياً أو محمدياً. أما أن الله وعد بأنه يورث المؤمنين الأرض فمختص في هذه الدنيا بأرض الوثنيين، وفيما سوى ذلك المقصود به الجنة بعد الموت: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء}1، فالأرض هي أرض الجنة، وتأويل الوعد خلافاً لهذا النص الصريح إنما هو مخالف لغرض الدين وإبعاد للمؤمنين عن طلب رضي الله بإقامة جوهر الدين الذي هو شي روحي مرتفع عن القتال، وهوس الحزبيات المعكّر على المؤمنين سكينتهم وإسلامهم لربهم: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا}2. فدخول الجنة، في التعليم الديني، هو للذين اتقوا ربهم وعملوا الصالحات، وليس للذين يطلبون قتال من لا يقاتلون في الدين بناءً على تأويل فاسد كالذي وجدناه في (العروة الوثقى)، وهو الذي يجعل الديانة الإسلامية ديانة فتنة واضطهاد وحرب بالقول إن أساسها وضع على طلب الغلبة ومنازعة كل ذي شوكة في شوكته، وهو قول فاسد، باطل. فالديانة الإسلامية وضع أساسها على عبادة الله واتقائه واستباق الخيرات. أما الحرب فقد فُرضت لرفع الاضطهاد ودفع الفتنة وليس لإلقاء الاضطهاد وإثارة الفتنة. هذا هو التأويل الصحيح لقوم يعقلون ولا يريدون إبطال الدين وتضحيته على مذبح السياسة والدولة أو تفكيك وحدة الدين التي لا تقوم ببعض آيات دون بعض. ولكن إذا كانت الدولة غايتهم القصوى، فلماذا يراؤون في الدين ويتظاهرون بالرجوع إلى الدين وكتاب الله ؟ إنهم يموهون غاياتهم بادعاء أنهم يريدون إقامة دين الله . ألا إن دين الله قائم والله في غنى عن مقاصدهم. فبعد فتح مكة وإبادة عبادة الأصنام أصبح دين الله قائماً. وقد قلنا إنه لا خلاف ديني بين الإسلام المسيحي والإسلام المحمدي إلا في صفة يسوع وصفة محمد، فالمسيحيون يعتقدون أن يسوع هو المخلص وأنه كلمة الله وروحه وأنه الله المتسجد في الإنسان، ولذلك هو أسمى من هبط من المحل الأرفع. والمحمديون يعتقدون أن محمداً هو رسول الله المقدم على جميع الرسل ومن ضمنهم يسوع، وأن به الخلاص، وهذا معنى قولهم {خاتم النبيين}3. وهذا الاعتقاد التقليدي مجارٍ لما ورد في إنجيل برنابا الذي يعدّ مصدراً لهذا الاعتقاد فبرنابا يقول إن يسوع ليس المسيح (مسيا) وإن هذا الموعود سيأتي فيما بعد. قال برنابا: «أجاب يسوع: لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا لأني لست أنا الذي خلقكم بل الله الذي خلقكم يحميكم أما من خصوصي فإني قد أتيت لأهيى الطريق لرسول الله الذي سيأتي بخلاص العالم، ولكن احذروا أن تُغشوا لأنه سيأتي أنبياء كذبة كثيرون يأخذون كلامي وينجسون إنجيلي. حينئذٍ قال أندراوس: يا معلم اذكر لنا علامة لنعرفه، أجاب يسوع: «إنه لا يأتي في زمنكم، بل يأتي بعدكم بعدة سنين حينما يبطل إنجيلي ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمناً في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم»»1 وجاء كذلك أنه عندما خاطب يسوع السامرية قال لها بعد أن سألته: لعلك أنت مسيا أيها السيد، أجاب يسوع: «إني حقاً أرسلت إلى بيت إسرائيل نبي خلاص، ولكن سيأتي بعدي مسيا من الله لكل العالم الذي لأجله خلق الله العالم»2.
(ملاحظة: عندما ذكرنا برنابا وإنجيله لأول مرة في هذا البحث لم تكن لدينا نسخة منه لنطالعها فاكتفينا بذكر ما كنّا قد لاحظناه من قبل من قراءة بضع صفحات من آخره. أما الآن فق صارت نسخة الإنجيل المذكور بين أيدينا فطالعناها ووجدنا فيها مستندات ومراجع كثيرة تدل على ارتباط وثيق للتقاليد المحمدية بها، وسنعود إلى تفصيل ذلك في محله حين مراجعة هذا البحث لتنقيحه).
بناءً على ما تقدم وعلى الاستناد إلى رواية برنابا لإقامة اعتقادات محمدية كثيرة، يكون الخلاف منحصراً في هل يسوع هو المسيح الذي به الخلاص أو هو محمد. وهذه قضية لا يمكن أن يبتّ بها إنسان بالحجة والمنطق والبراهين، فهي مسألة اعتقاد لا مسألة تقرير أمر تاريخي، والحكم فيها يجب أن يترك لله كما ورد في القرآن، فهو وحده يقدر أن ينبىء المختلفين ما هم فيه يختلفون. ولكن يظهر أن تلامذة المدرسة الرجعية لا يريدون أن يتركوا لله شيئاً حتى ولا قوة الحكم. فهم يريدون إبطال الحشر لأنهم يريدون أن يحاسبوا المؤمنين من مسيحيين ومحمديين على كيفية إسلامهم. ومتى فعلوا ذلك فماذا يبقى لله يوم الدينونة؟، وما الفائدة من حشر النفوس؟، وما هي القيمة التي تبقى للآيات المنذرة للناس بعقاب الله؟
إن دعوة أساتذة «الجنسية الدينية» إلى إعادة دولة الدين المحمدي قد باءت بالخيبة، كما باءت بالخيبة دعوة الدين المسيحي. فقد دعا صاحبا (العروة الوثقى) العلماء (علماء الدين) لفعل الخير الذي هو في عرفهما الخير كله وهو: «جمع كلمة المسلمين». وناديا، في مقالة «التعصب»: «هذه هي روابطكم الدينية لا تغرّنكم الوساوس ولا تستهوينّكم الترّهات ولا تدهشنّكم زخارف الباطل. ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي»3! فلم يكن وهمٌ أعظم من وهم هذه الرابطة الدينية في معترك حياة الأمم، ولم يكن غرورٌ أسوأ مصيراً من هذا الغرور. فهل اجتمع التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي؟ كلا. ذلك لأن الروابط الجغرافية والسلالية والاجتماعية والاقتصادية كانت أقوى من الرابطة الدينية في جميع الأديان على السواء. وحين كانت الخلافة العثمانية قائمة لم يكن للرابطة الدينية من غرض غير تسخير الشعوب الإسلامية الأخرى لخدمة مصلحة تركية فقط. ولذلك انتفضت الأقطار العربية على تركية محالفةً أمماً مسيحيةً ضدها. وفي حين كانت الرابطة الدينية وسيلة لبسط النفوذ التركي كانت في الوقت عينه عبئاً على السلطة العثمانية التي رزحت تحته إذ لم تستطع أن تكوّن من الجماعات الإسلامية شعوراً واحداً وفكراً واحداً في المسائل السياسية والاقتصادية الإنترناسيونية، فكان ذلك برهاناً قاطعاً يكذّب قول صاحبي (العروة الوثقى) وهو: «لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي، والفارسي يقبل سيادة العربي، والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني».
الرابطة الدينية لها قيمة فعلية في الشؤون الدينية البحتة فقط، أما في شؤون الحياة الاجتماعية ــــ الاقتصادية وتقدم الأمم، فالرابطة القومية، كما هي مشروحة في كتاب (نشوء الأمم) بقلم زعيم النهضة السورية القومية، هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية الأمم وحقوقها، وتجهزها بجميع وسائل الفلاح. وحيث تخيب الرابطة القومية لا يمكن أن تصيب الرابطة الدينية، لأن الرابطة الدينية تهمل الجغرافية والتاريخ والسلالة والاجتماع والاقتصاد والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه.
حبط مشروع الجنسية الدينية والوحدة الإسلامية المحمدية حبوطاً تاماً لأنه مشروع خارج عن الشؤون الدينية البحتة، وداخل في مسائل لا يصلح الدين لحلها لأنها ليست مسائل دينية، فلم يمكن التوفيق بين مطامح السوري ومثله العليا ومطامح التركي ومثله العليا، ولم يمكن توحيد عقليات الجماعات الإسلامية من هندية وعربية وفارسية وتركية وغيرها، ولا توحيد شعورها وحاجاتها ومشاربها، فكان لا بد من حبوط فكر العصبية الدينية والدولة الدينية، ولا نقول إن فكرة الدولة الدينية لا يمكن أن تقوم في الإسلام المحمدي فقط، بل في الإسلام المسيحي أيضاً وفي كل دين على الإطلاق.
بعد حبوط دعوة مدرسة الدولة الدينية والجنسية الدينية إلى «جمع كلمة المسلمين» وتوحيد السوريين والأتراك والمصريين والفرس والأفغانيين والمغربيين والهنود إلخ، رأى أتباع هذه المدرسة أن يلجأوا إلى مبدأ البدل أو التعويض، فقرروا المناداة بجامعة محمدية أقل اتساعاً من مدى الفكرة الأولى. فنادوا بالعروبة على أساس المحمدية متخذين من العنصر اللغوي دعامة جديدة لفكرتهم الأولى الدينية المعدلة بعد الخيبة. وهذا التعويض بالجامعة الدينية اللغوية عن الجامعة الدينية البحتة لم يكن القصد منه التخلي عن الفكرة الأولى بالكلية، بل القصد منه الاقتناع بالأقل لاستحالة الأكثر. وفي بعض مجادلات أصحاب هذه المدرسة لا يندر أن تجد هذا التعبير «وطن المسلمين (المحمديين) القرآن». وهم يجدون في «العروبة» بدلاً ظاهرياً لا يبعد عن الفكرة الأساسية. بل صالحاً كل الصلاح لها، إذ لم يكن للعرب شأن تاريخي إلا بواسطة الدين، ولم تنتشر اللغة العربية إلا بالدين، فالعروبة عندهم لا تعني شيئاً غير الحركة الدينية التي قام بها محمد. ولذلك لا تخلو كتاباتهم وخطاباتهم من إيراد الإسلام (المحمدي) مقروناً بلفظة العروبة أو العرب إلا في ما ندر. ومع ذلك فأكثرهم يحاولون أن يكونوا دبلوماسيين ماهرين فيقولون إن العروبة لا تعني المحمدية وإنه لا دخل للدين فيها، أي إنها دعوة يمكن أن تشترك فيها الأقطار العربية بكل جماعاتها الدينية بدون تمييز بين دين ودين، ظانين أن مثل هذا الكلام البسيط يكفي لخدع الجماعات غير المحمدية. فهم يجهلون أن مثل هذه الحيلة لا يجوز على المحقق في العلوم الاجتماعية والسياسية، وإن جاز على بعض البسطاء. إن اتحاد أقطار لا رابطة بينها في الجغرافية أو الاجتماع أو الاقتصاد أو النفسية، ولا صلة لها بعضها ببعض إلا صلة الدين المدعومة بشيوع اللغة، لا يمكن أن يكون له غرض آخر غير غرض الدين. وإن الجماعات القليلة التي تنتمي إلى أديان أخرى لا يمكن أن يكون لها أي شأن أو حقوق في دولة دينية ليست من دينها، خصوصاً وأصحاب نظرية هذه الدولة الدينية يجاهرون أن الغرض من دولتهم الدينية هو التغلب على أهل الأديان الأخرى «منازعة كل ذي شوكة في شوكته» «وإن الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة والافتتاح».
ولما لم تكن الدعوة «العروبية» غير بدل من الدعوة إلى الدولة الدينية المحمدية، لم تتمكن من تعيين أصول ثابتة لفكرتها الموهومة. لذلك ترى أصحاب هذه الدعوة يلجأون إلى التعديل والبدل عند كل صعوبة تصطدم بها دعوتهم، فهم تارة يطلقون القول على جميع الشعوب المتكلمة العربية، وطوراً يحصرونه في منطقة وهمية أصغر، فيقولون بتشكيل دولة واحدة من سورية ومصر والعراق والعُربة، أي بإخراج القيروان وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش. ثم يصغّرون هذه المنطقة عند الاضطرار فيجعلونها مقتصرة على سورية والعراق والعُربة. هذا يجري «للعروبيين» في سورية. أما في الأقطار الأخرى المستقلة فقد تحولت «العروبة» إلى لفظة يقصد بها الدعاوة للدولة القائمة والتغرير بالسوريين وغيرهم. ففي مصر، مثلاً، العروبة على أنواع. فمنها العروبة المصرية الاقتصادية التي تقصد إدخال سورية والعراق وغيرهما تحت سلطة الرأسمال المصري بواسطة المصارف وغيرها من الشركات، ومنها العروبة المصرية السياسية وغرضها إيجاد خلافة محمدية في مصر تضم إليها ما أمكن من الأقطار المجاورة. وقد ذرّ قرن هذه العروبة بطلب إلحاق فلسطين بمصر وتفكيك الوحدة السورية. ونكتفي بهذين المثلين اللذين يمكن اتخاذهما قياساً للعروبات في الأقطار الأخرى. وهذه الحقيقة توضح مقدار التصادم بين الجنسية الاجتماعية أو العصبية القومية والجنسية الدينية، ففي مصر توجد دولة محمدية وفي العُربة توجد دولة محمدية وكذلك في العراق. ولا يوجد بين هذه الدول خلاف على الرسول ولا على القرآن، ومع ذلك فإن الدين لم يستطع توحيد هذه الدول، والسبب هو العوامل الجغرافية والسلالية والتاريخية والاقتصادية والسياسية والنفسية وغيرها. وهذه العوامل هي التي لها الغلب على الدين في الشؤون الدولية لأن الدولة شي اجتماعي ــــ اقتصادي ــــ سياسي قبل كل شيء.
العروبة ليست سوى حلم دولة دينية محمدية محدودة بدلاً من الدولة الدينية المحمدية المطلقة التي حلم بها أصحاب مدرسة الرجعة، وهذه العروبة الدينية التي تزيد الشقاق والتنافس بين الأقطار العربية، وتمنع التفكير القومي من النمو وفتح الآفاق للأمم العربية اللسان هي نكبة أو لعنة لجميع الأقطار العربية على السواء، كما أنها تغرير بالمسلمين المحمديين ليسيئوا فَهم دينهم ويضحوا روحية الدين في سبيل أغراض دولة دينية، لا محل لها إلا في الأقوام غير المتمدنة التي لا تقوم لها قائمة بغير الدين لانعدام أسباب العمران عندها.
هاني بعل
للبحث استئناف

العروبة الزائفة والعروبة الصحيحة


(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (37)، 1/2/1942م


أظهرنا في الحلقة السابقة بطلان حجة أصحاب فكرة الجنسية الدينية والدولة الدينية المحمدية الذين حاولوا تأويل القرآن على هواهم وتفسير الدين بما ينطبق على أغراضهم، وقلنا إن اجتهادهم المستند إلى بعض آي القرآن دون بعض هو اجتهاد باطل، لأنه يلغي فكرة وحدة الكتاب ووحدة الدين، ويجري ضد غاية الدين الأصلية، ويحاول التغرير بالمؤمنين حتى تختلط عليهم أغراض الدين وأغراض الدولة فلا يميزوا بين تلك وهذه، وهو غاية الضلال.
وقد جئنا بشواهد كثير من القرآن على فساد تأويل صاحبي (العروة الوثقى) لغرض الدين وعلى أن «تنمية الملّة» كان أمراً ضرورياً وفرضاً على المؤمنين، لتثبيت دينهم في أرض الشرك (الوثنية)، ولإزالة أخطار الوثنيين عليه. وأثبتنا أن فرض القتال كان للتغلب على الذين يقاتلون المؤمنين في الدين. ونزيد هنا على ما أثبتناه أنه لا يجوز الاحتجاج بآية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}1، فهذه الآية وردت إبّان التحريض على قتال المشركين والذين ظاهروهم من أهل الكتاب على قتال أتباعه محمد واضطهاد دعوته. فهي من قسم نقض العهد مع المشركين من سورة الأنفال التي فيها نص صريح بالتحريض على القتال. والآية ظرفية بحتة ومتعلقة بالحرب بين محمد وأعداء دعوته في العُربة. وتخصيص أهل الكتاب بدفع الجزية بدلاً من وجوب تغيير صلاتهم ومعتقدهم هو برهان قاطع علي أن الحرب بين المحمديين وبينهم لم تكن على أساس فساد دينهم واعتقادهم بالله ، إذ إن القرآن جاء {مصدقاً لما معهم}2، بل على أساس تكذيبهم لمحمد ومعاونة المشركين عليه، وهو مختص بالعرب من أهل الكتاب الذين جعلوا ثلاثة آلهة في محل الله الواحد وقالوا بألوهية مريم، وفسروا المسيحية على ما لا ينطبق على تعاليمها، فحكم الآية المذكورة مقيد بظرف الزمان وظرف المكان. والبرهان على ذلك هو وجود آيات كثيرة مكيّة ومدنية لا تجيز إطلاقها كآية: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}1 وآية {قولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}2، وآية: {لا إكراه في الدين قد تبين الشد من الغيّ}3 وآية: {وليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب}4 وآية: {الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون}5 وغيرها كثير يضيق عنه هذا المجال. وانظر الفرق بين آية قبول الجزية من الذين: {لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب}6، والمقصود بعض أهل الكتاب وليس كلهم، وآية قتال المشركين حتى يتوبوا ويؤمنوا وهي من السورة عينها قال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}7. فمحاربة: {الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب}8 لا تتناول جميع أهل الكتاب، بل تقتصر على الذين أساؤوا فهم دينهم من العرب الذين وصفنا أمرهم وصفاً مؤيداً بشواهد. وتخصيص الذين {لا يدينون دين الحق} يعني أنه يوجد من يدينون هذا الدين بموجب كتابهم. أما تأويل المعنى على غير هذا الوجه فاجتهاد بعيد جداً، والعمل بالاجتهاد غير واجب، لأن المجتهد يقول بما يصل إليه إدراكه وقصده، فكلامه رأي شخصي لا يلزم النص إذ هو في غير مقام النبوة والوحي. والمصيبة كانت دائماً في الذين يريدون أن يجعلوا اجتهادهم في مقام الوحي والنبوة، ويطلبون من المؤمنين ترك النص والتعويل على اجتهادهم.
إن أصحاب فكرة الجنسية الدينية والدولة الدينية من المجتهدين في تفسير القرآن وتأويله، وهم أصحاب غاية السلطان والمطامع في الحكم عن طريق الدين، لم يحاولوا التفكير في ما هو أبعد من الطفرة الوقتية ولا في طبائع الدول والمجتمعات الإنسانية. وأغرب من ذلك أنهم لم يهتموا بدرس نشأة دولة الدين المحمدي وتلاشيها، ولا بدرس نشأة دولة الدين المسيحي وانقراضها. ولذلك يعزون تفكك وحدة الدولة الدينية المحمدية إلى «تخالف طلاب الملك وتنازع الأمراء»، فقد قال صاحبا (العروة الوثقى)، وهما أستاذا هذه المدرسة الفكرية «العصرية» في مقالة «الوحدة الإسلامية»:
«نعم يوجد للتقصير في إنماء العلوم وللضعف في القوة أسباب أعظمها تخالف طلاب الملك فيهم (المحمديين)، لأنّا بيّنا أن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم فتعدد الملكة عليهم كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات، فشغلوا أفكار الكافة بمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل المغالبة وقهر بعضهم لبعض. فأدت هذه المغالبات وهي أشبه شيء بالمنازعات الداخلية إلى الذهول عما نالوا من العلوم والصنائع، فضلاً عن التقصير في طلب ما لم ينالوا منها والانحسار دون الترقي في عواليها. ونشأ من هذا ما نراه من الفاقة والاحتياج، وعقبه الضعف في القوة والخلل في النظام، وجلب تنازع الأمراء على المسلمين تفرّق الكلمة وانشقاق العصا»1.
ثم تأتي فقرة أخرى من المقالة عينها في مجلة (العروة الوثقى) وهذا نصها:
«إن رعاة المسلمين، فضلاً عمن علاهم، تتصاعد زفراتهم وتفيض أعينهم من الدمع حزناً وبكاءً على ما أصاب ملّتهم من تفرق الآراء وتضارب الأهواء، ولولا وجود الغواة من الأمراء ذوي المطامع في السلطة بينهم لاجتمع شرقيهم بغربيهم وشماليهم بجنوبيهم ولبّى جميعهم نداءً واحداً»2.
أول ما يظهر التحقيق العلمي بعده عن حقائق العلم الصحيح، من كلام (العروة الوثقى) المثبت قبل هذه الفقرة، هو عزو انفراط وحدة الدولة الدينية المحمدية إلى «تخالف طلاب الملك» في المحمديين. فصاحب هذا الكلام لا يعرف من أسباب الاجتماع الإنساني وروابطه غير سبب الدين الإلهي ورابطته، مع أن الاجتماع لازم البشرية منذ أقدم أزمنة وجودها ومع أن التاريخ يخبرنا عن دولة عظيمة أقامت النظام وفتحت الفتوحات البعيدة قبل عهد الكتب المنزلة والبشير بالإله السماوي الواحد، كما جرى للدول السورية منذ العهد الفينيقي إلى آخر العهد السلوقي. والإمبراطورية السورية الشرقية التي ابتدأت بصور، بعد صيدا، وانتهت بنهاية الدولة السلوقية، والإمبراطورية السورية الغربية، وقاعدتها قرطاضة، قد عمرتا أكثر من أية دولة أو إمبراطورية دينية، وكانت لكل منهما وحدة ورابطة لم تنل مثلهما الدول الدينية. فتخالف طلاب الملك وتنازع الأمراء قد يكونا السبب الأعظم لفشل دولة من الدول الاجتماعية وتخاذلها، ولكنهما ليسا السبب الأعظم ولا الهامّ في تلاشي الدولة الدينية، لأن طبيعة الاجتماع الإنساني غير طبيعة الدين والإيمان. فالمؤمنون من كل دين أخوة بالمعنى الروحي فقط، أما بالمعنى الاجتماعي ــــ الاقتصادي فالأخوة هم فقط أبناء المجتمع الواحد الذين ألّفت بينهم البيئة وجمعتهم أسباب العيش ومطالب الحياة لا أسباب السماء ومطالب الإيمان.
الدولة الدينية المحمدية نشأت ونشأ الاختلاف بين الأمراء معها في أصولها، فاختلاف الصحابة وتنازعهم الأمر وحروبهم لم تكن على نص ديني ولا على غاية دينية، بل على السلطة والنفوذ، فطبيعة حياتهم العربية وتقاليد العرب وقبائلهم وعاداتهم ومطالبهم هي سبب هذه المنازعات بين الصحابة التي امتدت إلى كل مكان دخله العنصر العربي. وهذه المنازعات لم تكن منازعات في الدولة المحمدية، بل في البيئة والمجاميع العربية، فلا يصح إطلاقها على جميع المنازعات التي أدت إلى تفكك دولة الدين المحمدي. فإن أسباب هذه المنازعات الأخيرة التي تفككت من جرائها وحدة الدولة الدينية المحمدية هي عينها أسباب المنازعات التي انتهت بتفكك وحدة الدولة الدينية المسيحية، أي الأسباب القومية. فالقومية قد انتصرت على الدولة الدينية. فلم يطق السوري الخضوع لدولة فارسية باسم الدين ولا لآية دولة دينية غير سورية، ولم يطق الفرس الخضوع للعرب، ولم تطق سورية وغيرها من الأقطار العربية الخضوع لتركية. فاختلاف الأجناس والعقليات والبيئات لا يمكن أن يزول بوحدة الدين أو بوحدة الشرع، لأنه من طبيعة الواقع الاجتماعي. وجهل هذه القاعدة الاجتماعية هو الذي جعل صاحبي (العروة الوثقى) يقولان إن السبب الأعظم لتفرّق كلمة المحمديين هو «تخالف طلاب الملك وتنازع الأمراء» وإنه: «لا جنسية للمسلمين (المحمديين) إلا في دينهم». وكلامهما يدل على جهل بنشأة الدولة الدينية المحمدية ونهايتها. فهل كان الخلاف الجنسي العظيم بين الشعوبيين والعروبيين مجرد تنازع أمراء وتخالف طلاب ملك؟
أيظن أصحاب فكرة الجنسية الدينية المحمدية أنه لو عم الدين المحمدي العالم لأمكن إنشاء دولة واحدة تضم الإنسانية كلها؟ إنهم يظنون هذا الظن وينادون بوجوب الدعوة إلى هذا الوهم، غير معتبرين بعلم ولا بتاريخ. فاختلاف أمزجة الشعوب وطبائعها وتباين مراميها وتعارض غاياتها ليس منشؤه «وجود الغواة من الأمراء ذوي المطامع في السلطة»، بل اختلاف الأقاليم والأجناس والبيئات وتباين المطالب العمومية، وتعارض الغايات الشعوبية وتنائي الأقطار. ولذلك لا يمكن التفكير بضم أبناء دين واحد منتشر في الأصقاع في دولة واحدة إلا على أساس الجهل والغرور، وقد يحتج بأن المحمديين ينقصهم ازدياد المعارف والفنون ليتحدوا في دولة واحدة. والحقيقة أن هذا ينقصهم ليعلموا بطلان هذه الفكرة. فالشعوب المسيحية التي بلغت ذروة التمدن وأقصى العلم لم يكن اتحادها في دولة واحدة مع أن المسيحيين يعدون أنفسهم إخوة في الدين، وتعاليم دينهم أوصتهم بالأخوّة، ذلك لأن أخوّة الدين لا يمكنها أن تحل محل الأخوّة القومية والحاجات والمطالب الشعوبية. ولذلك خابت الدولة الدينية العامة المطلقة في جميع الأديان على السواء. وكل دعوة لإعادة هذه الدولة هي تغرير وشعوذة. والالتجاء إلى مبدأ البدل لإقامة دولة دينية محدودة بدلاً من الدولة الدينية العامة هو شعوذة أخرى، لأن هذا البدل هو دليل على فساد الفكرة الأساسية، التي هي فكرة تأسيس الدولة على الدين، واستحالة تحقيقها. فلو كانت الفكرة صحيحة للزم عدم انهيار الدولة الدينية بعد تأسيسها وعدم الاقتصار على بعض أهل الدين دون بعض.
وقد أوضحنا في الحلقة السابقة فساد قضية الدعوة إلى إنشاء دولة دينية محدودة، بدلاً من إنشاء دولة دينية عامة. فأثبتنا عدم وجود وعدم إمكان تعيين أصول ثابتة لفكرة الدولة العربية التي يتخيل الداعون الأساسيون لها إمكان جمع جميع الأمم المتكلمة العربية والدائنة بالمحمدية تحت لوائها. وبيّنا عدم استقرار هذه الدعوة على فكرة واضحة والمجال الواسع للتأويل فيها. فبما أنها ليست سوى بدل من عقيدة فاسدة لم تصلح لتكون عقيدة في ذاتها ولذلك لم يتمكن أصحابها من توليد حركة واحدة عامة في جميع الأقطار الداخلة ضمن نطاق عالم اللغة العربية والدين المحمدي.
العروبة التي تهمل المبادىء الجغرافية والإقليمية والسلالية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه ولا تستند إلا إلى الدين وإلى اللغة بمقدار هي عروبة زائفة لا نتيجة لها غير عرقلة سير المبادىء القومية الصحيحة في سورية والأقطار العربية عامة، وإعطاء الدول الأجنبية كل فرصة للتسلط على أمم العالم العربي، والتغرير بها وإذلالها، هي عروبة زائفة لأنها لا ترمي إلى نهوض أمم العالم العربي، بل إلى إيقاد نار الفتنة الدينية والحرب الداخلية في كل أمة مؤلفة من أكثر من ملّة المحمديين.
إن أصحاب هذه العروبة هم أعداء العرب الحقيقيون لأنهم أعداء نشوء القومية الصحيحة في كل أمة من أمم العالم العربي، وأعداء نهوض كل من هذه الأمم كرجل واحد لنيل سيادتها وحقوقها، والارتقاء نحو مطالبها العليا المكونة من نسيج شعورها وآمالها ومطامحها وأشواقها الأصيلة في نفس كل أمة ومزاجها. وهم يتوهمون، لجهلهم الفنون والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، أن الأكثرية الملّية تغني عن الواقع الاجتماعي وعن الوحدة القومية المطلقة التامة.
إن هؤلاء «العروبيين» قد زيفوا القومية ووضعوها في السوق للتداول، عوضاً عن القومية الحقيقية التي هي شعور كل أمة بشخصيتها ونفسيتها وحقوقها ومطالبها. وكما يلتبس على غير الخبراء بالعملة والطباعة المالية أمر العملة الزائفة، كذلك يلتبس على غير الخبراء بالعلوم الاجتماعية والسياسية وغير الممارسين للقومية الصحيحة أمر القومية الزائفة، فهم قد جعلوا العروبة في مقام الرابطة الدينية، ثم طلوها أو رسموها برسوم القومية زيادة في التمويه والتضليل.
قلنا إن القومية هي الشعور بشخصية الأمة وحقوقها ومثلها العليا، وهي في الحقيقة شخصية المجتمع ونفسيته فلا تطلق إلا على المجتمع المكوّن شخصية فيزيائية ونفسية واحدة. ولما لم يكن العالم العربي قطراً واحداً وبيئةً واحدةً وسلالةً واحدةً ومجتمعاً واحداً فلا يمكن أن تكون له شخصية فيزيائية ونفسية واحدة، ومن ثم لا يمكن أن تكون له قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة إلى الحياة والفن.
العالم العربي مؤلف من أقطار متباعدة، وأقسام كبيرة منه تتخللها أو تؤلفها الصحارى القاحلة غير الصالحة للعمران. وإذا كانت قد دخلت هذه الأقطار نسبة دموية عربية قليلة، فوضعها الجغرافي ومعدل كثافة سكانها وإمكانياتها الاقتصادية لم تؤهل هذه الأقطار لإنشاء مجتمع واحد مترابط بدورة دموية واجتماعية ــــ اقتصادية منتظمة. فلم تنشأ فيها نفسية متمدنة واحدة ولا نظرة إلى الحياة واحدة، فهي ليست بيئة واحدة، وسكانها لا يؤلفون أمة واحدة، وتسمية شعوب العالم العربي أمة هي من باب إطلاق الأسماء على خلاف مدلولاتها ومعانيها.
العالم العربي بيئات متباينة ومجتمعات متباعدة، وحاجات كل مجتمع ومطالبه العليا ونظرته إلى الحياة والكون تختلف عن حاجات الآخر ومطالب كل منها ونظرته إلى الحياة والكون. وبناءً عليه يكون العالم العربي أمماً لا أمة. وهذه الأمم لها صلات لغوية ودينية بعضها ببعض توجب عليها سلوك خطة التقارب والتفاهم ما أمكن، والتعاون على نسبة الاشتراك في بعض الشؤون السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية التي يمكن أن توجد في ما بينها. والطريق الوحيدة لحصول هذا التقارب وهذا التفاهم وهذا التعاون هو أن تنهض كل أمة بنفسها وتفهم وضعها وحاجاتها ومثلها العليا ويتمرن أفرادها على ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، فتصبح قادرة على إدراك ما يمكنها أن تشترك فيه مع أمم العالم العربي ويتفق مع حاجاتها ورغباتها. وما هو النصيب الذي تقدر على القيام به وما لا يمكنها الاشتراك فيه ولا يتفق مع حاجاتها ورغباتها. وهذه هي العروبة الصحيحة التي تجمع بين المحافظة على شخصيات أمم العالم العربي وحرياتها وحقوقها من جهة، والتعاون الطوعي أو الاختياري في جميع المصالح المتبادلة في ما بينها من جهة أخرى. هذه هي العروبة الصحيحة التي وضع قواعدها المتينة الحزب السوري القومي الذي، مع عمله لنهضة سورية، لم ينسَ مركز سورية في العالم العربي وما تقدر أن تفعله سورية للعالم العربي.
كل وحدة فعلية، لكي تثبت على زعازع الانقلابات السياسية، يجب أن تكون طبيعية لا اصطناعية. فالإمبراطورية العربية ــــ المحمدية كانت وحدة سياسية دينية اصطناعية اجتماعياً، لأنها نشأت بالفتح وليس برغبة واختيار الذين انضووا تحتها. فما كادت سورة الفتح تخمد حتى ذرّ قرن المنازعات الشعوبية، واستفاق كل شعب إلى حاجاته ورغباته الخصوصية، فتفككت الوحدة الاصطناعية وانهارت الإمبراطورية. ولا يمكن قيامها من جديد إلا بالطريقة التي قامت بها من قبل، أي بالقوة والفتح، إذ لا ينتظر أن تكون وحدة اجتماعية ــــ اقتصادية ــــ نفسية ــــ جغرافية نظراً للأسباب التي تقدم ذكرها. ومسألة الفتح تبقى من شؤون الفاتح، فهي مسألة سياسية إنترناسيونية لا مسألة قومية. إنها مسألة تقرير مصير أمم وأقطار لا مسألة نهضة أمة واحدة بإرادة واحدة.
النظرية السورية القومية في هذه المسألة هي: النهوض القومي بسورية أولاً ثم سلك سياسة تعاونية لخير العالم العربي، ونهضة الأمة السورية تحرر القوة السورية من سلطة الأجانب وتحولها إلى حركة فعالة لإنهاض بقية الأمم العربية ومساعدتها على الرقي.
وهذه العروبة السورية القومية هي العروبة الصحيحة الصريحة غير الملتوية، هي العروبة العملية التي توجد أكبر مساعدة للعالم العربي وأفعل طريقة لنهوضه.
إنها ليست عروبة دينية ولا عروبة رأسمالية نفعية، ولا عروبة سياسية مرائية: إنها عروبة مثلية لخير العالم العربي كله.
هاني بعل
للبحث استئناف

العروبة الدينية والدعاوات الأجنبية

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (39)، 1/3/1942م

قلنا في الحلقة السابقة إن العروبة التي تهمل مبادىءالنظام الاجتماعي ونواميس الاجتماع، ولا تستند إلا إلى الدين وإلى اللغة بمقدار، هي عروبة زائفة لا نتيجة لها غير عرقلة سير المبادىء القومية الصحيحة في سورية والأقطار العربية عامة، وإعطاء الدول الأجنبية كل فرصة للتسلط على أمم العالم العربي والتغرير بها وإذلالها. وسنوضح في ما يلي كيف أن العروبة الدينية صارت أفضل وسيلة لخدمة أغراض الدول الاستعمارية الكبرى.
قد بيّنا في المقال المتقدم غلط الفكرة القائلة إن ما ينقص المحمديين لإنشاء دولة واحدة عامة، أو دولة واحدة للعالم العربي وحده فقط، هو المعارف والفنون. وقلنا إن نقص العلم هو سبب تشبث المهووسين بهذه الفكرة الفاسدة. وقد عرفت الدولة الاستعمارية الكبرى فساد هذه الدعوة وعدم إمكان تحقيقها، فرأت أن تتخذها ذريعة لمقاصدها فتعمل لإبقاء الأمم العربية الجديرة بالنهوض تحت سلطان سحرها، تائهة في صحراء فكرتها سعياً وراء سرابها، فتأمن بذلك استيقاظ هذه الأمم لشخصياتها الحقيقية وقواها الكامنة فيها. فما دامت هذه الأمم ساعية وراء جامعة قد مضت أيامها وزالت أسبابها، بقيت بعيدة عن مجرى الحياة القومية الصحيحة، وعن التفكير الوضعي الذي به يكون التمييز بين الحقائق الفعلية والأوهام. وليس أفضل للدول الاستعمارية من استسلام الأمم المضَعة (بفتح الضاد) إلى الأوهام. لأن هذه كانت دائماً وستبقى أبداً أفعل في تقويض الأمجاد وإذلال الناس من جميع المعدات الحربية والقوات البرية والبحرية والجوية. وهي في حالة كحالة أمتنا تغني عن الالتجاء إلى القوة المسلحة لإبقاء شعبنا في ذلة الاستعباد. فلما أدركت الدولة الاستعمارية هذه الحقيقة وعرفت داءنا المقعد تفرّغ اختصاصيوها لاستنباط المخدرات لعقولنا والمحرّضات لدائنا. فكلما وجدوا أن الداء يكاد يضعف حقنوا أجهزتنا الفكرية بما يهيج جراثيمه الفتاكة، فيصدر في إحدى العواصم الاستعمارية مقال أو كتاب عن خطر الإسلام المحمدي الذي يهدد أوروبة وعن خطر العروبة الدينية على السياسات الاستعمارية، فتتناوله صحافتنا التي يقوم عليها في الغالب أشخاص عديمو أو قليلو العلم، في نفوسهم مرض وعلى عقولهم غشاوة، فيصيحون: «ها أوروبة بأسرها ترتعد اليوم فرقاً من فكرة وحدة أقطارنا وقيام جامعتنا الدينية اللغوية». أو كما قال صاحبا (العروة الوثقى)1:
«نعم إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي الرابطة الدينية وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية، ولأولئك الإفرنج مطامع في ديار المسلمين (المحمديين) وأوطانهم، فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة (التعصب الجنسي ومحبة الوطن) بين أرباب الديانة الإسلامية (المحمدية) وزينوا لهم هجرة هذه الصلة المقدسة وفصم حبالها، لينقضوا بذلك بناء الملّة الإسلامية (المحمدية) ويمزقوها شيعاً وأحزاباً، فإنهم علموا كما علمنا وعلم العقلاء أجمعون أن المسلمين (المحمديين) لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، إلخ».
هذا الكلام غاية في السفسطة وفساد الاستنتاج. فلو أن رابطة الدين والاعتقاد تقوم مقام النواميس الاجتماعية لكان الإفرنج الذين نالوا أعظم حظ من العلم في القرون الأخيرة، لجأوا إليها واتخذوها أساساً لتفكيرهم هم وقيام دولتهم. فالعصبية القومية عند «الإفرنج» لم تكن بدعة قصدوا تغرير الأمم العربية بها، بل كانت شعوراً صادقاً بوحدة كل أمة من أممهم وشخصيتها وحقوقها وحاجاتها ومصالحها، وهذه هي العصبية التي أنقذت أمم «الإفرنج» من انقساماتها الداخلية الدينية، وجعلت كل أمة يداً واحدةً على أعدائها. وإننا لم نجد كتاباً واحداً كتبه أحد من «الإفرنج» بقصد تفكيك عصبية المحمديين الدينية دون عصبية غيرهم من الملل، إلا أن يكون رجل دين أو متعصباً ضد المحمديين. ودارس التاريخ يعلم أن انقسام الدولة الدينية المحمدية بعد الفتح المحمدي لم يكن بدعاوات «الإفرنج» للعصبية القومية، بل بانتصار العامل القومي في الشعوب التي شملها الفتح على عامل الرابطة الدينية، من غير دعاوة من الخارج. وقد ذكر هذه الحقيقة العالِم الاجتماعي والمؤرخ ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. ولكننا نجد كتباً كثيرةً ومقالاتٍ عديدةً في المجلات والصحف التي تعنى بشؤون إفريقية والشعوب الشرقية، القصد منها إبعاد عقول هذه الشعوب عن التفكير القومي العصري. ولا يمتنع وجود سياسي أوروبي يخشى على فوائد دولته الاستعمارية من هياج ديني في المستعمرات فيكتب، ولكن بين أضرار الهياج الديني على دولة استعمارية والعمل التعميري لإنشاء دولة واحدة من جميع أبناء ملّة واحدة فرقاً كبيراً جداً.
إن مسألة القومية ليست مسألة محمديين ومسيحيين بل مسألة واقع اجتماعي له حكم واحد. وقد بيّنا في الحلقة السابقة تباين أقطار العالم العربي وبُعد المسافة بين قطر وقطر واختلاف حاجات هذه الأقطار وعقلياتها. وهذه أمور ليس منشؤها الدعاوة الأجنبية، بل الوضع الجغرافي والإقليمي والمزيج السلالي المختلف في كل قطر عن غيره، ونوع حياة سكان كل قطر ودرجة تمدنهم ومقدار ثقافتهم ومعدل كثافة السكان ومبلغ العمران. وإذا نظرنا إلى مواقع الأقطار العربية على الخريطة، ورأينا تنائيها وترامي حدودها البحرية والصحارى التي تتخللها، ثم إذا درسنا إمكانيات هذه الأقطار الاقتصادية وحاجاتها الإدارية والحربية، تبيّن لنا كم يبعد خيال جعل هذه الشعوب أمة واحدة ودولة واحدة عن الحقيقة الفعلية.
الواغلون على المواضيع الاجتماعية والسياسية وحدهم يظنون أن الأمم تنشأ بالأهواء والرغبات الاستبدادية، لا بالنواميس الاجتماعية، وأن الدول تقوم على الهوس الديني بالشؤون المختصة بما وراء المادة، لا على على القواعد السياسية ــــ الاقتصادية. إن تباعد الأقطار العربية الجغرافي وضعف العمران في أكثرها واختلاف الأجناس وتباين الحاجات والمطالب العليا، أو تزاحمها وتصادمها، لا تسمح بتكوين أمة واحدة من شعوب هذه الأقطار ذات دورة اجتماعية ــــ اقتصادية تامة، والذين يقولون: «هذه ألمانية كانت دولاً واتحدت. وعلى هذا القياس يمكن توحيد الأقطار العربية» لا يفهمون شيئاً من الأمور الوضعية والقواعد القياسية، فنظرة واحدة على الخريطة، ومقابلة واحدة بين هيئة ألمانية وحدودها وكثافة سكانها، وهيئة الأقطار العربية وحدودها وكثافة سكانها تظهران اختلال القياس بين الهيئتين ووضع كل منهما وإمكانياته ومقوماته اختلالاً كبيراً. وحجج هؤلاء الأساطين في السفسطة هي في الغالب صبيانية. فمنها أن الأقطار الشاسعة شقات البعد فيما بينها يمكن ربطها بسكك الحديد والطيارات والمراكب البحرية. ولكنهم لا يكلفون أنفسهم درس حاجات هذه الوسائل ومقوماتها. فسكك الحديد إذا لم توجد لها الإمكانيات الاقتصادية الكافية من مشحونات المحاصيل الزراعية والمنتوجات الصناعية وحركة تنقل سريعة، فلا يمكن أن تعمّر، على افتراض وجدت الرساميل الكافية لمدها من جبال البختيشوه وخليج فارس إلى طيطوان على الأطلسي. والطيارات ليست صالحة لإيجاد دورة اجتماعية ــــ اقتصادية. فلا تصلح لحمل أبناء القرى الضعيفة وبناتها من قطر إلى قطر ليتزاوجوا وينشئوا الأندية الثقافية والاجتماعية، وليشتركوا في حياة فعلية واحدة. وما يقال في قطر الحديد والطيارات يقال في المراكب البحرية، خصوصاً وأن محاصيل أكثر الأقطار العربية متشابهة. فلا يحتاج أبناء قطر من قطر آخر شيئاً يقول من محاصيله الزراعية أو منتوجاته الصناعية. فأهل سورية لا يحتاجون إلى قمح أو عدس أو بقول مراكش لأن أرضهم تعطي ما يزيد عنهم من هذه الغلال. وإذا نشأت في سورية نهضة صناعية بسبب وجود النفط والأملاح الكيمياوية ومقدار قليل من الحديد والفحم الحجري فستحتاج إلى أسواق لمنتوجاتها الصناعية في الخارج، ولكنها لن تحتاج إلى المحاصيل الزراعية، والأرجح أن أسواقها الطبيعية ستكون في اتجاه العراق وإيران وأفغانستان، أكثر مما تكون في اتجاه القيروان وطرابلس الغرب وتونس ومراكش. وفي ما خلا سورية فالأقطار العربية عديمة المعادن الصالحة للصناعات الثقيلة، فلا تقدر أن تبني قطرها ومراكبها من مواردها الطبيعية ولا أن تصنع معداتها الحربية من بنادق ومدافع وذخيرة وما إلى ذلك. فكل خط حديدي تريد إنشاءه ستضطر لتسليمه إلى شركات أجنبية أو إلى شرائه من الخارج، وكذلك القطارات والطائرات والمراكب. فبأية عملية اقتصادية يمكنها فعل ذلك؟ ولكن هذا السؤال وأمثاله سخيف جداً في نظر أرباب العروبة الدينية الخيالية.
أما الوجهة الحربية ومقتضياتها الدفاعية ــــ الهجومية في طول الشواطى والحدود، خصوصاً شواطى إفريقية المحاذية لأوروبة حيث الصناعات الضخمة وكثافة السكان العظيمة، فأمر يكاد يستحيل النظر فيه على قاعدة تفكير أصحاب العروبة الدينية بدون تحقير للمدارك الإنسانية العادية.
وأما الوجهة السياسية فمرمى نظرها من أسوأ المرامي، أكثر الأقطار العربية موجود تحت سلطان أو نفوذ دول كبيرة ذات صناعات ضخمة وقوات حربية عظيمة، وبعض هذه الدول يزيد عدد سكان الدولة الواحدة منها على مجموع سكان جميع الأقطار العربية. وتعلو درجة ثقافتهم واستعداداتهم التكنيكية من كل نوع على درجة ثقافة واستعدادات جميع الأقطار المذكورة. وأية حركة سياسية واحدة في الأقطار العربية عامة لا تصطدم بدولة واحدة من هذه الدول الأوروبية الضخمة فقط، بل بأكثرها. لا بد لحركة سياسية عامة في جميع الأقطار العربية من الاصطدام ليس ببريطانية وحدها، ولا بفرنسة وحدها، ولا بإيطالية وحدها، ولا بإسبانية وحدها، بل بجميع هذه الدول دفعة واحدة. فالذين يقولون إن اتحاد جميع الأقطار هو أضمن طريقة لنيل الاستقلال، وإن استقلال سورية وحدها غير ممكن، هم، بالكثير، أطفال في السياسة. فإن استقلال سورية الموحدة في نهضة قومية أكثر إمكانية وأقرب منالاً من استقلال جميع الأقطار العربية دفعة واحدة بحركة واحدة. فسورية، بوضعها الجغرافي ومقدرتها المادية والروحية، أقوى، سياسياً، من جميع الأقطار العربية متحدة، لأنها، بنهضتها القومية، قد تصطدم بدولة أو دولتين أوروبيتين على الكثير، ويمكنها في مقابل ذلك، اكتساب صداقة وتعاون دولة أو دولتين أو أكثر من طراز عدوّتها أو عدوّاتها، ولكن حركة واحدة في جميع الأقطار العربي ستصطدم حتماً بمعظم الدول الأوروبية، وهي جميعها صانعة أسلحة ومعدات، والأقطار العربية لا تصنع شيئاً منها. وقد كادت ثورة عبد الكريم [الخطابي] تنجح في مراكش الإسبانية فلما امتدت إلى مراكش الفرنسية عظمت قوة العدو عليها، ولم تكن قد أعدت أصدقاء لمعاونتها حربياً وسياسياً، فانسحقت بسرعة. ولو امتدت الثورة المذكورة إلى تونس وطرابلس الغرب والقيروان لوجدت إيطالية واقفة مع فرنسة وإسبانية صفاً واحداً. ولو توسعت إلى مصر وسورية لوجدت الإمبراطورية البريطانية قد صارت مع الدول الثلاث السابقة يداً واحدةً. ولكن نهضة قومية في سورية قد تجد دولتين ضدها، ولكنها تتمكن من إيجاد دول معها واختيار الظروف المناسبة لتحقيق أغراضها. ومتى تحررت سورية أمكنها حينئذٍ أن تنظر في كيفية مساعدة الأقطار العربية قطراً قطراً حسب الظروف والفرص والإمكانيات. فالذين يقولون إن النهضة السورية القومية «عدوة للعرب» هم ممخرقون ومشعوذون. وقد بيّنا بالحقائق العلمية أنهم هم أعداء العرب وأعداء نهضة العالم العربي. والحقيقة أنه لو قُدِّر للنهضة السورية القومية أن تنشأ على العهد التركي، بدلاً من حركة «الوحدة العربية» الخيالية، لكانت سورية خرجت من الحرب العالمية الماضية دولة مستقلة ذات سيادة تامة على جميع حدودها الطبيعية. إن أصحاب فكرة «الوحدة العربية» الدينية زينوا لها حدوث نهضة واسعة عظيمة تسحق الجيوش وتهلك الأساطيل وتفتح الفتوحات، فقعد شباب سورية القوي البنية لا يفكر إلا بانتظار تلك النهضة الخيالية التي صوروها له وهو لا يعلم كيف ستحدث ولا متى تحدث، فنشأت في الجيل السوري الماضي روح اتكالية منعت كل طموح صحيح وكل فكرة جيدة وكل تفكير عملي، ولم تنشط غير الخمول.
إذا سلّمنا، جدلاً، بإمكان حصول حركة واحدة في آنٍ واحد في جميع الأقطار العربية وإمكان نجاحها السياسي ــــ الحربي فهذا النجاح لا يحقق «الوحدة العربية» بجعل شعوب العالم العربي أمة واحدة ودولة واحدة، فهذان أمران يتعلقان بالنواميس الاجتماعية، لا بالحوادث السياسية الوقتية ولا بالرغبات الخصوصية أو الاستبدادية. وقد قام على صحة هذا النظر الدليل التاريخي، إذ تفككت الدولة الدينية المحمدية بعد خمود سورة الفتح من تلقاء ذاتها، وليس بدعاوة «إفرنجية» أو غيرها. ثم عادت فانهارت مرة أخرى على يد الخلافة التركية. وتركية لم تتمكن من النهوض، بعد أن رزحت تحت عبء الدولة الدينية وسياسة الخلافة، إلا بترك فكرة الدولة الدينية والاعتماد على نهضة تركية قومية تنظم الشعب التركي وتقوي معنوياته. فخرجت تركية القومية دولة أقوى بكثير من السلطنة العثمانية التي جمعت بين الدين والدولة وظنت أن رابطة الدين من أهم مقوماتها.
أدرك سياسي الدول الكبرى الاستعمارية ما في دعاوة «الوحدة العربية» الدينية من خطل الرأي وقصر النظر ونقص العلم، فأخذوا يحدثون الأحداث النفسية التي تزيد المشغوفين بهذه الدعاوة الفاسدة شغفاً، فتارة يظهرون الاحترام لهذه الفكرة وطوراً يتظاهرون بالوجل والفرَق منها وحيناً يراؤون بتحبيذها، وآناً يمثلون دور الغاضب المهدد، ولكنهم يغتبطون سراً بتسلط هذا الوهم على عقول شباب الأمم العربية وما يجره من انقسامات داخلية وتحزبات أهلية، لأن أساسه فكرة سياسية ملّية. ونحن نعلم اليوم كم تُخرج مطابع بريطانية وألمانية وإيطالية وإسبانية من الكتب والمقالات الموضوعة خصيصاً لإغراء شعوب العالم العربي بخيال الدولة الدينية الواسعة، وللإيحاء النفسي العلمي إليها بالمضي في طلب هذا السراب، الذي يصرفها عن إدراك حقيقة طبائعها وإمكانياتها. وقد استخدمت بريطانية الكاتب المعروف أمين الريحاني، الذي قام برحلته المشهورة في العُربة ووضع كتابه (ملوك العرب) بالاتفاق مع الإنكليز، لتغذية خيال «الوحدة العربية». واستخدمته للغرض عينه إسبانية التي دعته لإلقاء محاضرات في مراكش. وإسبانية أوجدت في عاصمتها جمعية اسمها «الجمعية الإسلامية» لجلب نظر المحمديين إلى إسبانية. وبعض كتّابها يؤلفون الآن عدداً من الكتب عن تاريخ العرب وعظمة الإمبراطورية المحمدية السالفة، وإمكان العودة إلى إحياء تلك الدولة والاتجاه نحو إسبانية التي تصبح بمثابة طليعة أو «مقدمة المجد العربي في أوروبة»! إلى آخر هذه التعابير السيكولوجية المقصود منها التأثير على نفسيات شعوب العالم العربي، للوصول إلى أغراض خارجة عن نطاق الأمم العربية ومصالحها.
في سورية لم تلاحق الدولتان المنتدبتان أية فئة «عروبية» تنادي بالإمبراطورية العربية، ولكنهما حاربتا كل عمل وحركة يقصد منهما إيجاد وحدة قومية متينة في الشعب السوري. وبريطانية قد استعملت بنجاح كبير خيال «الوحدة العربية» لتثبيت سياستها الاستعمارية في سورية. فبعد أن استفحل أمر ثورة فلسطين سنة (1936م)، بدخول العناصر السورية القومية في تلك الثورة وعلى رأسها القائد السوري القومي المأسوف عليه سعيد العاص، ورأت بريطانية أن الشعب السوري سيلتهب كله في منطقتي الانتداب لجأت إلى «ملوك العرب» وطلبت تدخّلهم باسم العروبة لرفع الحرب ونزع سلاح جيش الثورة. فتدخّل أولئك الملوك ووعدوا بأن يتولوا تحقيق مطالب الثورة بالطرائق السياسية فسلمت «اللجنة العربية العليا» بذلك، وفوق هذه اللجنة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، فخرج الأمر من يد السوريين، وما كاد جيش الثورة يسرَّح، بعد تلف المواسم وزهق النفوس ونزف الدماء، حتى وفدت اللجنة البريطانية التي وضعت مرسوم تقسيم فلسطين وإيجاد دولة يهودية في القسم الخصب منها!
هاني بعل
للبحث استئناف

العروبة كقوة إذاعية للمطامع السياسية الفردية

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (41)، 1/4/1942م

لمّا لم تكن العروبة المقصود بها وحدة الأقطار العربية اللسان والمحمدية الدين سوى لفظة مبدلة من الوحدة الدينية المحمدية، لتدل على وحدة دينية محدودة باللغة، بدلاً من الوحدة الدينية المطلقة التي كانت غرض الدعاوة الرجعية الأولى إلى إعادة إنشاء الدولة الدينية، كانت لفظة ذات قوة إذاعية عظيمة في الغوغاء يحرّض بها ويحرك ويثار، وهذا ما تنبه له السياسيون الشخصيون ذوو المطامح والمطامع السياسية الفردية، الذين يهمهم استثمار الدهماء وبناء المجد الشخصي قبل إفادة الأمة وبناء المجد القومي.
أكثر السياسيين السوريين الذين تقدموا عهد الحركة السورية القومية أو انحرفوا عنها هم إمّا شخصيون، وهؤلاء معظمهم، وإمّا رجعيون، أو شخصيون ورجعيون معاً. ومن هؤلاء السياسيين من أدرك عقم فكرة الوحد العربية كعبد الرحمن الشهبندر وهاشم الأتاسي وغيرهما. وللشهبندر مقال نشر في عدد مارس/آذار سنة (1934م) من مجلة (المقتطف)1 يقول فيه باستحالة الجمع بين بعض أقوام العالم العربي وبعضها الآخر. ولكن حين عاد الشهبندر إلى ميدان السياسة السورية بعد إعلان العفو سنة (1937م)، أخذ يخطب في أحياء دمشق داعياً إلى العروبة الدينية ووطن القرآن والوحدة العربية والإمبراطورية العربية، جامعاً حوله عدداً من الذين يوافقونه في هذه السياسة أو يذهبون هذا المذهب على غير هدى. والحقيقة هي أن غرضه لم يكن توحيد العالم العربي ولا إنشاء الإمبراطورية العربية الموهومة، بل كان الوصول إلى مثار الشعور عند الغوغاء، واستفزازه للأخذ بناصره ليستظهر على «الكتليين» وجميع الأحزاب الأخرى، ويصل إلى رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة عن طريق الدعوة إلى اعتقاد لم يكن يؤمن به الداعي، بل كان نبذه. ففي مقالة الشهبندر المشار إليها يقول:
«فمن الخطل السياسي الاجتماعي العظيم إذن أن يتوهم أحد من رجال النهضة في العالم العربي أنه في حيز الإمكان تأليف دولة عربية مركزية ديمقراطية تضم منذ الآن بين دفتي دستور واحد دمشق والكويت وعنيزة والعسير والمكلا. فهذه بلدان، وإن جمعت بينها اللغة والعقيدة (والأرجح أنه يعني بالعقيدة الدين)، وتشاركت في كثير من أطوارها التاريخية، إلا أن العادات والتقاليد المحلية، واختلاف درجة الثقافة العامة وما إلى ذلك من مقومات العقل الاجتماعي الذي لا بد منه لتأليف الوحدة السياسية، جعلت شقة الخلاف في ما بينها أبعد من أن يضمها مجلس تشريعي واحد، أو يلم شتاتها إرادة سلطانية واحدة».
ومع أن هذا الكلام ناقص جداً، إذ لم يتناول الوجهة الجغرافية ولا بقية النظرة السياسية ولا الناحية الاجتماعية ولا القواعد الاقتصادية ولا الوجه الحربي، التي ألممنا بها إلماماً في الحلقة السابقة، فإنه يؤكد عدم الإيمان بالعروبة كعقيدة تجمع الأقطار العربية اللغة والمحمدية الدين في أمة واحدة ودولة واحدة. ولكن عبد الرحمن الشهبندر كان من الصنف السياسي العتيق الذي أقام حاجزاً منيعاً بين السياسة والعقيدة السلبية التي انتهى إليها ووقف عندها. فالسياسة لرجال هذا الصنف كانت ذات قاعدة شخصية بحتة، ولذلك كانوا يجرونها على معتقدات السواد من الناس المدعوين، مهما كانت بعيدة عن الصواب، لا على معتقداتهم هم. وهذا ما عناه، أو بعض ما عناه، زعيم النهضة السورية القومية، في البسط والإيضاح الموجز الذي وضعه في سجنه الأول عن الأسباب التي دفعته إلى إنشاء الحزب السوري القومي. فقد أظهر الزعيم أن السياسة عنده هي لخدمة العقيدة القومية المشتملة على قضية واضحة جلية معينة، وليست لمجرد السياسة أو لقضية شخصية. العقيدة لسعاده هي الغاية، والسياسة هي الواسطة. أما رجال السياسة اللاقوميون فالسياسة عندهم هي الغاية والعقائد ليست لهم سوى وسائط، ولذلك هم يبدلونها، فيقولون اليوم بما أنكروه بالأمس، ويغيّرون غداً العقيدة التي نادوا بها اليوم، ولذلك لم يكن أن تنشأ من الفوضى والبلبلة نهضة قومية.
اختار أكثر السياسيين السوريين الخصوصيين العروبة أساساً لإذاعاتهم، وأكثروا من الكلام على الوحدة العربية وإغراء الناس بها، ليس لأنهم يعتقدون بصحتها وإمكان تحقيقها، بل لأنهم وجدوا أكثر العامة السورية الباقين على معتقدات قديمة قابلين للتأثر بها، فأكثرية الشعب السوري هي من المحمديين الذين حفظوا في أذهانهم صورة الدولة الدينية والخلافة وإمارة المؤمنين، ولم يحيوا قط، لا هم ولا غيرهم من الملل الأخرى، حياة قومية صحيحة. وهم لذلك أسهل انقياداً لدعو إلى الدولة الدينية منهم إلى دعوة قومية إصلاحية ليس لهم بها سابق اختبار أو معرفة. ولمّا لم يكن السياسيون القدماء يرمون في الدرجة الأولى إلى إصلاح عقائد الشعب وتوحيدها وإنشاء نهضة قومية صحيحة فيه، بل إلى استغلال عقائده القديمة لخططهم السياسية الشخصية، لم يكن يهمهم ماذا يصيب الشعب، مع تقادم العهد، من المصائب بسبب بقائه على عقائد ونظريات رجعية لم يبقَ لها محل في صراع الحياة والتفوق بين الأمم، فكان كل همهم منصرفاً إلى بلوغ مطامحهم ومطامعهم السياسية أولاً، ثم النظر، على قدر معرفتهم وفهمهم، في ما يفيد الشعب ثانياً.
هذا هو سبب اندفاع سياسيين شخصيين ونفعيين مسيحيين في دعاوة العروبة والوحدة العربية، مع أنهم لا يدينون بالمحمدية، فهم قد استخدموا العروبة والوحدة العربية كقوة إذاعية بين سواد الشعب. ولكن لا هم ولا السياسيون المحمديون كانوا مقتنعين بما يقولون. ومع ذلك فقد غرروا بقسم كبير من الشعب، وحملوا عدداً من سليمي النية على الاعتقاد، بإخلاص ونزاهة، بصحة الدعوة العروبية المؤسسة على الدين المحمدي، فلا يخلو الأمر من رجعيين مخلصين في رجعيتهم الوبيلة.
لمّا أسس سعاده الحزب السوري القومي، وتولدت من مبادئه النهضة السورية القومية، ازداد فزع السياسيين الشخصيين إلى العروبة والوحدة العربية ليتخذوا منهما قوة إذاعية بين الأكثرية المحمدية في سورية ضد انتشار مبادىءالحزب السوري القومي، كما فزع السياسيون الشخصيون الانفصاليون المتدرعون بدرع «استقلال لبنان المسيحي» إلى الدعوة لهذا الاستقلال «وعدم إمكان المسيحيين أن يحيوا مع المحمديين في دولة واحدة»، ليحاربوا امتداد حركة الحزب السوري القومي بين المسيحيين في الساحل الأوسط الجبلي من سورية. وكما أن الأكثرية المحمدية كان شعور عامتها ناشئاً عن النعرة الدينية. كذلك الأقلية المسيحية وغيرها كان شعور عامتها ناشئاً من النعرة الدينية. والسياسيون الشخصيون رأوا في النعرات الدينية عند العامة القوة الإذاعية الوحيدة التي يمكن استعنمالها بشي من النجاح الوقتي، ضد مبادىءالحزب السوري القومي القومية الجامعة جميع ملل الشعب السوري في عقيدة واحدة توحدهم اجتماعياً وسياسياً. فالذين استعملوا النعرة المحمدية العروبية استعملوها رياءً لتوطيد نفوذهم الشخصي عند عامة المحمدين وبلوغ مراميهم الخصوصية، وهذا هو سر هذا التحريض «العروبي» ضد الحركة السورية القومية.
الحزب السوري القومي نشأ ليكون سلّماً يرقى عليها الشعب السوري إلى ذروة الحياة الجيدة. والسياسين الشخصيون والخصوصيون والنفعيون أرادوا أن يكون الشعب سلّماً يرقون عليها إلى مطامحهم ومطامعهم الفردية. زعامة الحزب السوري القومي تريد أن تقود الشعب في طريق جديدة إلى عهد جديد وحياة مثلى، وزعامات الرجعية والشخصية تريد أن يبقى الشعب حيث هو في حين تدّعي أنها تعمل على إنقاذه.
العاجزون عن حل مشاكل الشعب الداخلية وعن شق طريق جديدة لحياته وارتقائه يلجأون إلى نعرات الشعب القديمة الهدامة، ليتخذوا منها سلاحاً يحاربون به من أوجد قضية الشعب الحقيقية. إنه سلاح في استعماله مقدار من الفطنة العادية غير كبير كما قد يتوهم. إنه، في كل حال، سلاح العاجزين الفاشلين، الذين يظهر عجزهم في نوع السلاح الذي يلجأون إليه قبل أن يظهر في انخذالهم النهائي القريب.
من هذه الناحية كان دعاة العروبة في سورية حلفاء للإرادات الأجنبية في مقاومة النهضة السورية القومية، كما كان دعاة الانفصال المسيحي اللبناني حلفاء هذه الإرادات المعادية لنهضة الشعب السوري ووحدته التي يقدر بها أن ينال سيادته، ويسيطر على كل شأن يهمه من شؤون الشرق الأدنى والبحر المتوسط، نظراً لمواهبه الممتازة وخطورة موقع بلاده الاستراتيجي.
إن الدول الاستعمارية لم تقاوم فكرة الوحدة العربية الوهمية الدينية الأساس، بل شجعتها. والدولتان «المنتدبتان» في سورية لم تقاوما الدعوة العروبية بل شجعتاها لأنهما وجدتا فيها عاملاً هاماً في إحداث الانقسام الداخلي في سورية، وإيجاد الأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة والحركات الانفصالية المجزئة الشعب والبلاد. فمذهب العروبة أو «القومية العربية» عند المحمديين كان جوابه مذهب «القومية اللبنانية» عند المسيحيين، ومذهب «الاستقلال الدرزي» عند الدروز. وهذا أفضل ما يمكن أن ينتظره الاستعمار الذي انتهز هذه الفرصة ليشجع جميع الحركات المتضادة في آنٍ واحد.
لم تهتم الدولتان الاستعماريتان في سورية لحركة سياسية مثل اهتمامها لحركة الحزب السوري القومي، فبينما رجال «الكتلة الوطنية»، الذين كانوا أحياناً عروبيين وأحياناً غير عروبيين يسرحون ويمرحون ويخطبون عن «الوحدة الكبرى» وتحويل الانتداب إلى معاهدة، وبينما كان يعطى الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الحرية التامة ليخطب في أحياء دمشق عن العروبة والوطن الديني الممثل بالقرآن والدولة العربية الكبرى، كانت السلطة الفرنسية والحكومات المحلية في لبنان والشام توجه القوات العسكرية بالسلاح والعتاد لمنع أي تجمهر في بيروت ودمشق لسماع خطاب واحد يلقيه زعيم الحزب السوري القومي. ولم يقتصر اهتمام السلطة على منع الشعب في المدن الكبرى من سماع صوت الزعيم، بل تعدى ذلك إلى الأقضية التي لا يحدث فيها تجمهر كالذي يحدث في المدن. وجميع الذين تتبعوا حركة الحزب السوري القومي يعرفون أمر القوات الجندية التي وجهت على طرطوس وعلى عماطور الشوف وعلى بكفيا المتن التي جرت فيها مناوشة بين القوميين والجند وسقط فيها عدد من الجرحى.
لم تحكم المحاكم الفرنسية العسكرية على رجال «عصبة العمل القومي» التي شعارها «العروبة» وسعيها للإمبراطورية العربية، ولم تصدر أي حكم كالذي أصدرته على زعيم الحزب السوري القومي ومعاونيه في إدارة الحركة القومية على أحد من رجال السياسة السورية. أما الأحكام التي صدرت بحق عدد من الأشخاص في دمشق فعائدة إلى وجود محاولة اغتيال ضد رئيس مجلس المديرين وليس إلى مسؤولية حركة قومية منظمة. أما رجال «العروبة» فقد كانت السلطة تشجعهم وتطلق لهم الحرية طالما عملهم يتعلق بأساس فكرتهم، أي جمع كلمة الأمم والشعوب العربية، ولا يتحول إلى عمل مختص بالشعب السوري.
لماذا لاحقت السلطتان الانتدابيتان حركة الحزب السوري القومي هذه الملاحقة الشديدة منذ اكتشفتا أمره؟ ولماذا تخافان من خُطَب الزعيم ولا تخشيان خُطَب «العروبيين» حتى إنها أطلقت الحرية لجميع السياسيين الذين عادوا بعد إبعادهم بالخطابة في الجوامع والساحات العمومية، ولم تمنع أحداً يريد التكلم على «الوحدة العربية» والدعوة إليها؟
الجواب واضح: لأن خُطب الزعيم قائمة على قضية صحيحة يمكن بها توحيد الشعب السوري وإطلاق قوة الشباب السوري من عقالها، أما خُطب جميع السياسيين الآخرين فهي تحدث الانقسام الديني في الداخل وتحاول جمع المستحيل في الخارج.
إن القضية التي يحملها الحزب السوري القومي هي قضية أمة موجودة بالقوة على أساس النواميس الاجتماعية، فأخرجها الحزب السوري القومي من حيّز القوة إلى حيز الفعل، بمبادئه القومية الصحيحة التي أزالت كل سبب من أسباب التفرقة ضمن الشعب السوري.
الحركة السورية القومية لم تنشأ نشأة حركة ملّية محمدية أو مسيحية أو درزية، تحاول الظهور بمظهر شبه قومي، بل نشأت حركة قومية جامعة، دخلت فيها، منذ بدء تكوينها، عناصر من جميع ملل البلاد، فكان فيها اليسوعي وكان فيها المحمدي وكان فيها الدرزي، وكونها حركة ولدها فرد وجّه دعوته إلى جميع أبناء أمته بلا فارق مذهبي أزال عنها كل صفة تكتلية ملية وأوجد الضمان لعدم نشوء تكتلات ملية في داخلها.
في الحركة السورية القومية لا يقول السوريون القوميون من الملة المحمدية بإنشاء دولة دينية على أساس «الجنسية الدينية» التي يقول بها الرجعيون، يعيش فيها أبناء الملل الأخرى تحت كنف أبناء الملة المحمدية ورحمتهم وحمايتهم. ولا يقول السوريون القوميون اليسوعيون أو الدروز بإنشاء دولة دينية مسيحية أو درزية بالاتفاق مع دول أجنبية مسيحية يعيش المحمديون في كنفها تحت رحمة المسيحيين وحمايتهم. كلا، لا شي من ذلك. إن جميع السوريين القوميين يؤمنون إنهم أبناء أمة واحدة هي الأمة السورية، تجمعهم عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وإرادة واحدة. فهم جميعهم يريدون الجميع أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات ويرفضون أن يكون بعض الأمة عبداً لبعض أو عالة على بعض أو تحت رحمة وتساهل بعض. إنهم يخجلون من أن يروا أحداً من أبناء أمتهم غير حر متمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية التي لهم في الدولة.
إن الحزب السوري القومي يقول إنه يجب أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة السورية الحق والحرية ليعتقد في الشؤون المتعلقة بما وراء المادة، كالله والسماء والجحيم والخلود والفناء، كما يريد، ولا يطلب منه إلا أن يكون قومياً صحيحاً مخلصاً لأمته ووطنه.
ولكننا نرى هنا أن نقول بصورة خصوصية لا دخل للحزب فيها إنه من المستحسن أن يعدّ المسيحيون المدنيون أو العلمانيون، إذ لم يشأ الإكليروس، محمداً رسولاً إلهياً ودينه ديناً صحيحاً ليشعر المحمديون أن المسيحيين لا يكفّرونهم في دينهم ولا يحطون من قدر نبيهم، كما أن يحسن أن يعدّ المحمديون دين اليسوعيين صحيحاً وأن يتركوا التأويلات التي تكفّرهم.
إن السوريين القوميين يحترمون معتقدات بعضهم بعضاً، ولا يخطر في بال أحد مدرك منهم أن يسفّه مذهب غيره الديني، ولكن ما ارتأيناه هنا هو شي عام لا يخرج منه اللاقوميون.
يجب علينا أن ننهض كأمة حية وأن نزيل من طريقنا جميع الصعوبات التي تعرقل أو تمنع نهوضنا، وأهم ما يجب أن نزيله من الصعوبات صعوبة الفتنة الدينية وصعوبة الفتنة الاجتماعية ــــ الاقتصادية. وإزالتهما تكون باعتناق مبادىءالحزب السوري القومي الموحدة، لا بمحاربة هذه المبادىء المقدسة كما يفعل الجهال الخالون من المسؤولية.
هاني بعل
للبحث استئناف

التعنتات المسيحية ــ خلاصة

(الزوبعة)، بوينُس آيرنس، العدد (42)، 15/4/192م

مما تقدم من هذا البحث يتبين أن الغرض الأخير له هو: قمع الفتنة الدينية بين أبناء أمتنا قبل استعار أوارها، ودعوة السوريين جميعهم من رسوليين ومسيحيين ودروز إلى رابطة العقيدة الاجتماعية الواحدة، إلى عقيدة القومية السورية التي تجمعهم في وطن واحد ومصير واحد.
وقد نبهنا، من قبل، في الحلقة السادسة والعشرين، إلى أنه لا يوجد في هذا البحث غرض فرعي كالذي قد يكون توهمه المتعنتون المسيحيون الذين يظنون أن تسفيه رأي أصحاب الدولة الدينية الرسولية، في المسيحية، وفي غرض الدين المحمدي كان بقصد إظهار أن الدين المسيحي هو الدين الصحيح الوحيد، وأن الدين المحمدي، يجب أن يزول. وأظهرنا في عدة أماكن سابقة أن تخصيص هذه السلسلة من الأبحاث الفلسفية الاجتماعية والدينية بنقض مذهب أصحاب «الجنسية الدينية» المحمدية وتسفيه مطاعنهم في المسيحية، وردّ دعوتهم إلى العصبية الدينية وتهوسهم العظيم الضرر بالقومية ومصير الأمة السورية، لم يكن إلا بقصد منع الفتنة الدينية التي قام بنفض الرماد عن بقية نارها نفر من ذوي المطامع الذين يستبيحون دماء أبناء الأمة من أجل أغراضهم الذاتية الحقيرة، ولإقامة الحد وكبح جماح حملة رجعية إذاعية شبه منظمة لتحريض الغوغاء المحمدي وإثارة نعرته الدينية، وتحريكه نحو المطامع السياسية الشخصية باسم الدين. وهذه هي الفتنة عينها. فبقدر ما يحرض الرجعيون والنفعيون الجماعات الرسولية ويثيرونها يحدث رد فعل في الجماعات المسيحية والدرزية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يصل إلى الجماعات المحمدية الصغرى أيضاً كالعلويين والشيعة، فهذه الشيع قد وقع عليها الاضطهاد من الجماعة المحمدية الكبرى في سورية من أهل السُنَّة وبسبب هذه العداوة أمكن فصل منطقة اللاذقية ومنطقة جبل حوران، إدارياً وسياسياً، عن بقية البلاد كما فصل لبنان عنها.
إننا بيّنا أغلاط المهووسين والرجعيين المحمديين والأضرار العظيمة التي تجلبها دعاوتهم على نهضة أمتنا الحديثة، وتمكنا من إثبات وجوب فصل المواضيع المليّة عن العمل القومي إثباتاً لا يقبل النقض. وهذا الغرض بعيد عن محاولة الحط من أصول الدين المحمدي الأساسية، وإننا نعتقد أننا قد بلغنا هذه الغاية في ما تقدم من حلقات هذا البحث.
بقي أن نقول قولاً يتعلق بالجهة المقابلة للحزبية المليّة المحمدية، أي بالجهة اليسوعية، فإن أعمالاً رجعيةً كثيرةً قد جرت في الجماعات المسيحية ليست كلها عائدة إلى «اتقاء الهوس الديني المحمدي»، وهذه الأعمال الرجعية ليست أقل سوءاً من أعمال الرجعيين المحمديين.
إننا نعتقد أن الغلط لا يصلح بغلط من نوعه، وإيجاد حركة رجعية مسيحية لا يعدم الحركة الرجعية الرسولية بل يزيد هذه الحركة احتداماً. ولكن الرجعيين المسيحيين لم يكونوا، في شي، أقل هوساً من الرجعيين الرسوليين، والرجعية المسيحية لا تقل تستراً بالوطنية و«القومية اللبنانية» عن الرجعة الرسولية بالوطنية و«القومية العربية». وكلتا القوميتين خرافيتان في ما يختص بالأمة السورية والوطن السوري الذي يكوّن لبنان جزءاً منه.
ومع أنه لا مجال في هذا البحث المخصص بالرجعة المحمدية وأصول معتقداتها السياسية ــــ الاجتماعية ــــ الدينية للتطويل في شؤون الرجعة اليسوعية التي وإن لم تظهر منها دعوات صريحة، علنية، كدعوات أصحاب الرجعة المحمدية المعتزين بأكثريتهم العددية، فإنها ليست أقل أهمية من هذه، فلا بد من تناول ما لم يحضرنا ذكرن في الحلقة السادسة والعشرين. فإن دعاة الانفصال المسيحي في لبنان يوردون حججاً أكثرها أقوال شفوية يتناقلونها في أوساطهم، يجب إسقاطها وتسفيهها لعدم صحتها وعدم صوابيتها، وقد أسقطنا بعضها وسفّهناه في الحلقة السابقة، المشار إليها، ونتناول هنا ما يحضرنا من هذه الحجج:
سمعنا أكثر من مرة في بعض المحاضر أشخاصاً مسيحيين يردّون على الدعوة إلى الاتحاد القومي بهذه الأقوال: «المحمديون متعصبون ولا يمكن الاتحاد معهم»، وتأييد هذا القول يأتي في الأقوال الأخرى كهذا القول: «لا سبيل للتفاهم معهم أو لحفظ كرامتنا عندهم، فهم إذا جاء أحد منهم يزور واحداً منا استقبله هذا مع أهله وعياله، فتجلس له زوجة المسيحي وبناته وأخواته، ولكن حيث يذهب المسيحي ليرد زيارة المحمدي فإنه يستقبله دون أهله وعياله ويحجب عنه امرأته وبناته، فكيف يمكن التفاهم والاتفاق مع الذين هذا شأنهم»، وإننا نلاحظ أن الذين يقولون هذه الأقوال يدلون بها بلهجة من قد أعطى القول الفصل والحجة التي لا تدفع. وهذا دليل على مبلغ الهوس والجهل. فإن تمحيص هذه الحجة يثبت بطلانها وسخف أصحابها، فإن المحمدي لا يحجب امرأته وبناته عن اليسوعي فقط، بل عن ابن ملّته نفسها، ففي نصوص الشرع المحمدي لا يجوز أن تسفر المرأة إلا لزوجها وابنها وأخيها ومن هم بمنزلة أقرب القرابة، وسواء أكان سواهم من ملّتها أو من غير ملّتها فهي لا تسفر ولا تجلس لهم. فهذه المعاملة لا يقصد منها إهانة الزائر المسيحي ولا رفض مودته، ولكنها عادة تستند إلى الشرع، أما لزوم هذا الشرع أو عدم لزومه فمسألة أخرى. ودليل آخر على فساد ادعاء أصحاب هذه الحجة هو أنه إذا جاء زائر مسيحي إلى دار صديق رسولي وجلب معه امرأته فامرأة الرسولي لا تمتنع عن استقبالها في مكان الحريم وإكرامها.
ومن أقوال هؤلاء المتعنتين: «إننا قد لقينا كثيراً من الاضطهاد من المحمديين، وحرمنا مساواة الحقوق والتماثل في المواقف، فلا يمكننا أن ننسى ما جرى لبعضنا ولآبائنا من الإهانة والاضطهاد، إلخ»، ومع أن حجة الاضطهاد صحيحة فليس صواباً اتخاذها ذريعة أو مستنداً لجعل الماضي يحكم على الحاضر والمستقبل، فإعدام المستقبل بسبب جهالات الماضي هو أسوأ الضلال: إنه الانتحار والانعدام، ولا يسعى نحوه إلا كل سيىء المصير، إنه جريمة تتناول الأبناء والأحفاد الأبرياء، وأي جهالة يمكن أن تكون شراً من هذه الجهالة؟
ماذا كان يحدث لألمانية لو ظل بروتستنتيوها وكاثوليكيوها يقولون مثل هذا القول، أي أنهم لا يستطيعون نسيان الأحقاد والاضطهادات القديمة بين تينك الشيعتين المسيحيتين، التي ولدت بينهما ما يعرف في التاريخ بحرب الثلاثين سنة؟
أجل، إن حرب الثلاثين سنة الدينية التي نشبت بين الذين اعتنقوا مذهب لوثر الإصلاحي والسلطة الكاثوليكية وأتباعها، هي حرب لم ينشب مثلها في بلادنا بين المسيحيين والرسوليين. إنها حرب شديدة كثرت وقائعها المشهورة وسالت فيها الدماء شآبيب، وتهدمت المدن وخربت الديار. ولم يبقَ في ألمانية مدينة أو بلدة إلا ولبست الحداد وأقيمت فيها المناحات. فلو بقي أحفاد المتقاتلين الألمان يقولون إلى اليوم ما يقوله أحفاد المتقاتلين السوريين، أي: «لا يمكننا أن ننسى ما جرى لآبائنا وضحايانا» أكانت تقوم لألمانية قائمة؟
إلا أن ما مضى قد مضى، والأمة يجب أن تحيا للحاضر والمستقبل، وليس للماضي، وإذا نظرنا إلى الماضي فلننظر لاستخراج العبر والمغازي وليس الرجوع إلى حالة الماضي المؤسفة.
ومن أقوال جهلة المسيحيين إن ما يُرى من شدة تعصب العامة المحمدية هو دليل على عدم إمكان الاتفاق والاتحاد مع المحمديين، فكأنهم يقولون إن المحمديين خلقوا جامدين على حالتهم غير قابلين للتطور، وهذا جهل وخطل في الرأي، فإذا رجعنا إلى أزمنة التعصب المسيحي وجدنا أنها لا تختلف في شي عن أزمنة التعصب الرسولي، إذا لم تكن فاقتها شدة وقسوة. فلنعتبر بما جرى في ألمانية ثم بما جرى في فرنسة من الاضطهاد الديني الذي يبلغ قمته في مذبحة برتلماوس الشهير التي ظهرت فيها فظاعة الغدر والحقد الديني بأقبح مظهر. وقد رأينا بعد ذلك أن الناس تركوا هذه الأمور، فهل يظن أحد من ذوي الإدراك العادي أن المسيحيين وحدهم قابلون للتطور وأن المحمديين سيبقون جامدين في حالة الهوس الديني وأوهامه؟
إن السوريين المحمديين قابلون للتطور كالسوريين المسيحيين، ولا ننسَ أن أكثر المحمديين السوريين كانوا من قبل مسيحيين ثم اعتنقوا المحمدية مفضلينها مع الحرية على المسيحية مع العبودية، لأن الفتح المحمدي خيَّر أهل البلاد بين الدخول في الدين الرسولي ونيل جميع حقوق أتباعه وبين البقاء على دينهم ودفع الجزية. وإبطال حقوقهم المدنية والسياسية.
أما ما نراه من شدة هوس الجماعات المحمدية في سورية فهو أمر طبيعي جرى مثله في جميع الملل، وهو عائد إلى قرب عهدهم بالتعصب الديني وانعدام العلوم الفلسفية والعلمية من أوساطهم، وليس إلى طبيعة فيهم لا تتبدل ولا تتغير. فلا ننسَ أن تساهل المسيحيين الحالي عائد إلى سبقهم الرسوليين إلى العلوم والمعارف العصرية بما نشأ في أوساطهم من مدارس وخصوصاً ما نشأ في المدة الأخيرة من المدارس المدنية. وحيث نشأت في أوساط رسولية مدارس مدنية عنيت بتدريس العلوم الحديثة نجد تبدلاً كبيراً في نظر التلاميذ المحمديين إلى الحياة الاجتماعية، وفي الحركة السورية القومية جرى التغيّر والتطور مجرىً واحداً بين المسيحيين والرسوليين والدروز.
معلوم أن الرسولية تأخرت عن المسيحية في سورية نحو سبعة قرون، وفرق هذ المدة في التطور يجب ألا يذهب بدون ملاحظة. ثم نجد أن التعصب الديني المسيحي لم يبتدىء يخفّ إلا بعد نشوء المدارس العلمانية، أما حين كان التعليم دينياً بحتاً كان التعصب الديني المسيحي مثل التعصب الديني الرسولي، وشدة التعصب الرسولي التي لا تزال ظاهرة بين محمديــي سورية عائدة إلى تأخر نشوء المدارس العلمانية عندهم وقلة عددها بالنسبة إلى المدارس الدينية والتعليم الديني المحشو هوساً وتعصباً دينياً.
إذا وضعنا عدداً متساوياً من التلاميذ المسيحيين والرسوليين والدروز تحت ثقافة واحدة فإننا نجد النتائج واحدة، ولا تختلف إلا بتعرض التلاميذ لتأثيرات أخرى في بيوتهم. ومع ذلك فالاختلاف يضعف رويداً مع استمرار الثقافة حتى يتلاشى ويزول بالمرّة.
وقد شاهدنا أطوار هذا الصراع الطويل بين الثقافة القومية الواحدة التي أنشأها الحزب السوري القومي وعوامل البيئات المليّة. وفي أوائل أطوار هذا الصراع ظهر كأن عوامل الحياة المليّة تغلب دوافع الحياة القومية وثقافتها. ولكن لم يطل الأمر حتى أخذت الثقافة القومية تتغلب على الثقافة المليّة، وصارت دوافع الحياة القومية تمحق عوامل الحياة المليّة حتى أتت عليها. وقد اقتضى ذلك مقدارا عظيماً من الصبر والحنكة وبُعد النظر وحسن السياسة، والسهر في إدارة الحزب السوري القومي العليا، فكانت النتيجة باهرة لا يتصور اللاقوميون رؤيتها ولا في المنام.
ولا يظنن أحد أن جميع مفكري المحمديين هم من نوع الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني، فهذان المفكران الرجعيان غير السوريين لا يمكنهما ادعاء احتكار التفكير المحمدي العصري. وقد قلنا إنه من المؤسف أن مفكراً سورياً محمدياً هو السيد الفراتي عبد الرحمن الكواكبي لم يذهب صيته ذهاب صيت إمامَي الرجعة المذكورين مع أنه أحق بهداية النفوس منهما، إذ نظر إلى الحياة الاجتماعية والسياسية من جهة التفكير السوري المترقي، وإليك فقرة مما قاله في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد):
«يا قوم، وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، (وهو قول سوري موجه إلى السوريين بالدرجة الأولى وإن يكن القول عاماً الناطقين بالضاد) أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد. فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون. فهذه أمم أوستريه وأميركة قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي من دون الإداري(؟) فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها. فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعجام والأجانب: دعونا يا هؤلاء، نحن ندبر شأننا، نتفاهم بالفصحاء ونتراحم بالإخاء ونتواسى في الضرّاء ونتساوى في السرّاء. دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء ألا وهي: فلتحيَ الأمة. فليحيَ الوطن. فلنحيَ طلقاء أعزاء!»1.
هذا كلام رجل من المحمديين عرف معنى الإسلام الصحيح وقال قولاً جعله في طلائع العهد القومي، وإن كان الناس اتّبعوا من هو ([عبد الرحمن] الكواكبي) أحق بالتقدم عليه. ولكن النهضة السورية القومية جاءت تنفض غبار الأوهام عن أذهان الناس ليميزوا بين قول الحق وقول الباطل. فرحم الله السيد الفراتي بما قال، وفيه زبدة تفكير راسخ وتأمل ناضج: «دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط». فهذا قول تتبناه الحركة السورية القومية بحرفيته، وتخلّد به ذكرى الإمام الكواكبي الذي نظر في مقتضيات الدين والدنيا فقال فيها هذا القول الفصل.

الخلاصة:
قد تبين من هذا الدرس، المختصر على طوله، أن الدعوة الرجعية إلى دولة الدين الرسولي هي فاسدة ومستندة إلى جهل في الدين والدنيا، كما أن الدعوة الرجعية إلى دولة الدين المسيحي هي فاسدة ومستندة إلى جهل في الدين والدنيا.
واتضّح أنّ التعصبات الدينية والحزبيات المليّة هي بلاء هذه الأمة السورية الذي لا بلاء بعده، وأن لا دافع لهذا البلاء وغيره عن الأمة غير دافع القومية السورية التي جعلها الحزب السوري القومي دين الدنيا للسورييين. وقد توفرت الأدلة والبراهين النظرية والعملية على صحة هذا الدين القومي الذي يجعل السوريين عصبة واحدة لا تفرّق بينهم في الدنيا أية فكرة محلها في الآخرة، ولا يتميز بينهم أحد إلا بمقدار ما يجاهد ويبذل لخير الأمة السورية حميعها.
إن النتائج الفعلية التي حصلت بنشوء القومية السورية وسير الحركة السورية القومية هي نتائج أكيدة لا ينقصها إلا أن تعمّ الشعب، لينهض كله نهضة واحدة بعقيدة واحدة وإيمان واحد، فيصير قادراً على الصبر والثبات في معترك الأمم والتقدم في مضمار الحياة. والوصول إلى هذه الحالة السعيدة التي لا يشتهيها عدو لسورية يقتضي تلبية واسعة سريعة من الأوساط والعناصر المدركة التي رأت صحة الرسالة السورية القومية، لإمداد الحركة السورية القومية بالمال اللازم لنشر رسالتها وإذاعة مبادئها ونظرياتها وتلقين تعاليمها للجماعات العطشانة إلى المعرفة المشتاقة إلى نور اليقين، ولتأييد هذه الحركة المباركة معنوياً وماديا ومساعدتها على مهاجمة الدعاوات التضليلية ومحاربة الأفكار الساقطة والمذاهب الانحطاطية، فيكون من وراء ذلك تغيير الأمة من حال الانشقاق والتخاذل والتحاقد والضعف إلى حال الاتفاق والتعاون والتعاضد والقوة والتغلب والمجد.
إن القضاء على التضليل والمضللين، وجلب سواد الشعب إلى صراط الحقيقة والحق يحتاج لبث المعرفة في جميع الأوساط. وهذا عمل كبير في حد ذاته يقتضي وسائل كثيرة من الإذاعة الخطابية والكتابية. والتفكير في هذا المشروع وحده ومقتضياته يجعلنا ندرك كم هو ضروري الإقبال على مناصرة الحركة السورية القومية مادياً ومعنوياً. ولو أن التلبية الفعلية امتدت بسرعة في الوطن والمهجر وحصلت للحركة المقومات المادية الكافية لإذاعة واسعة، وبث الكتّاب والخطباء في جميع الأنحاء، وطبع الكتب والمناشير والخطب وتوزيعها بعشرات الألوف، وإنشاء الصحف والمجلات لإمداد الناس بالمعلومات الوثيقة والتوجيهات الصحيحة، لكان من المحتمل أو المرجح أن يكون موقف سورية في هذه الحرب غير موقف الشلل الذي تقفه بسبب كثرة الدعاوات والإذاعات المضللة التي تقوم بهاع عناصر السياسة الشخصية والرجعية، وتغذيها الإرادات الأجنبية التي، أياً كان مصدرها، لا ترغب في أن ترى الأمة السورية موحدة العقيدة والإرادة لكي لا تفوتها مطامعها فيها.
إن كل سوري وسورية يغاران فعلاً على شرف قوميتهما ومصلحة شعبهما ورفاهية وطنهما يجب أن يعلما أن أمانيهما لخير أمتهما ووطنهما لا تتحقق بالكسل واللامبالاة ولا بمجرد التمني، بل بدرس القضية القومية المقدسة درساً صحيحاً في مبادئها التي نشأت عليها، وبالقيام بالواجب نحو هذه القضية، وبمحاربة دجّالي الوطنية والأدب ومشعوذي العلم والفن.
بهذه الطريقة يتم الوعي القومي وتُخلّص الأمة السورية من قضية الحزبيات المليّة ومن مظالم الإقطاعية، فتقف صفوفاً واحدةً مرتبةً بين صفوف الأمم الباقية وفي مقدمة هذه الأمم جميعها بما لها من مثل عليا فائقة الجمال وفضل على الثقافة والتمدن الإنسانيين.
إن القواعد الصحيحة لنهضة سورية قومية عظيمة قد وضعت، والنهضة العظيمة قد ابتدأت بالفعل منذ نحو عشر سنين، فلم يبقَ إلا أن تحصل التلبية الواسعة لسير سورية إلى المجد الذي ينتظرها.
فيا أيها السوريون المقيمون والمهاجرون، ارحموا أنفسكم وعيالكم وذريتكم يرحمكم الله ، انبذوا الذين يريدون بكم شقاقاً والتفوا حول الذين يريدون بكم وفاقاً، واتركوا قضايا الآخرة للآخرة، وتعالوا إلى كلمة سواء تجمع شملنا وتعيد إلينا وطننا وأهلنا وعزّنا وكرامتنا وحقوقنا ومصالحنا، إلى القومية السورية الاجتماعية، التي هي رابطة كل سوري وسورية بكل سوري وسورية، ورابطة الأجيال السورية الماضية والحاضرة والمقبلة.

أيها السوريون:
انصروا قوميتكم وتعصبوا لها وحدها فهي مبدؤكم ومعادكم في الدنيا وبها تنتصرون وتنالون المجد.
انتهي البحث وفي العدد القادم كلمة الختام.
هاني بعل
للبحث استئناف

الخاتمة: خلود الجنون

(الزوبعة)، بوينُس آيرس، العدد (43)، 1/5/1942م

إن من يستعرض، بروية وإدراك، الحلقات السابقة من هذا البحث وينظر في أسبابها المباشرة ويعرف أهميتها الكبيرة لغرض «تصفية العقائد» البالية المتضاربة، الذي أعلنه زعيم النهضة السورية القومية في خطابه أول حزيران (1935م) وفي بسطه وإيضاحه الذي وضعه في سجن الرمل أوائل كانون الثاني سنة (1936م)، يرى بجلاء عظم الفرق بين إيقاد النار وإخماها. فالأول عمل هيّن لا يندر أن يكون رمية طيش ونفخة جهل، وهو في مقدور النابغ والخامل على السواء أما الثاني فعمل شاق، كثير الجهد يحتاج فيه إلى العلم والتنظير والصبر والمثابرة. والنار الكلامية أو الفكرية أصعب علاجاً من النار المادية لأنها تتناول النفوس وتركيبها المعقد وعوامل عقليتها. ومن وضوح هذا الفرق بين طبيعة العملين يدرك الدارس الفطن سهولة تبجح المخربين بتخريبهم وصعوبة إنجاز التجديد والإصلاح في بيئة يكثر فيها الجهلة، الطائشون، المخربون.
إلى جانب هذه الحقيقة نرى حقيقة أخرى وهي أن التبجح بالتخريب ينتهي بالخراب، وأن الجنون بالخلود لا يوصل إلا إلى الجنون.
كما أن النفسية العامة هي مركّب معقد كذلك النفسية الفردية. فإن من غريب أمر رشيد سليم الخوري الناظم المعروف بِــ«الشاعر القروي» وأضرابه كإلياس فرحات وإيليا أبي ماضي أنهم لشدة مرض نفوسهم وإعجابهم بذواتهم أخذوا يظنون أن المبادىء والتعاليم الاجتماعية لا صحة أو حقيقة لها في نفسها وأنه، لذلك، يمكن هدمها بالهجو والقدح والطعن اللئيم بأصحابها، ثم إشادة فكر وأوهام خاطئة في محلها بالتعظيم والمدح. وتوهموا أن شعور الشعب وأمانيه ليست ذات أصول نفسية حقيقية بل مجرد حالات عارضة يمكن التلاعب بها بالقصائد والخطب فلم يعودوا يقيمون حرمة لعلم ولا وزناً لتعليم أو مبدأ.
بهذا التفكير السخيف الممزوج بحالة من أصعب حالات الجنون بالخلود ومطامع مادية، مالية وغيرها، أذعن رشيد سليم الخوري إلى إغراء الذين باعهم نفسه وقلمه ليحمل على مبادىءالحركة السورية القومية وشخصية زعيمها التي كان يعرف هو حقيقة قوتها، وليدعو إلى بعض الشخصيات الرجعية التي تقلبت في مذاهبها ومواقفها الاجتماعية والسياسية، تلونت في غاياتها العمومية بألوان شتى كالسيد شكيب أرسلان، الذي حمل على إيطالية سنة (1931م) بسبب سياستها الاستعمارية في طرابلس الغرب والقيروان، ثم عاد سنة (1933م) وما بعدها فمدح الاستعمار الإيطالي وأفاض في وصف العمران الذي قام به في إفريقية، ولم يخفَ على المراقبين أن انقلابه كان لأن الطليان استمالوه بالمال، ثم عاد إلى الوطن سنة (1937م) بعد وضع المعاهدة الشامية ــــ الفرنسية وأيد سياسة «الكتلة الوطنية» وسياسة فرنسة وكان الفرنسيون قد استمالوه كما استماله الطليان، ثم انقلب بعد إعلان الحرب الحاضرة على رجال «الكتلة الوطنية» الذين كانوا لعهد قريب إخوانه وأخدانه، وعلى سياسة فرنسة فأخذ يطعن فيهم وفيها ولم يكن في كتاباته ضد سياسة فرنسة سوى معيد بعض ما كان أعلنه الدكتور خليل سعاده، وجاهر به من النقد لسياستها في سورية. وسبب هذا الانقلاب هو أن الإذاعة الألمانية استمالته إليها واشترت إمضاءه ومقالاته التي تحمل مزيجاً جزؤه الأول ما تشير به إدارة الإذاعة الألمانية وجزؤه الثاني مطامعه الشخصية في الخلافة المحمدية. ناهيك عن مواقفه الغريبة، في العهد التركي، البعيدة عن كل شعور وطني نبيل وعن كل إدراك قومي صحيح.
بالتفكير العقيم المشار إليه، قام رشيد الخوري ينقض سراً وجهراً في بعض الحالات، ما كان قد أثبته كتابه في صدد شخصية مؤسس النهضة السورية القومية، وإثباته الكتابي المذكور هو ما نشره في صحيفة (الرابطة) التي عهدت إليه رئاسة تحريرها بعد وفاة الدكتور خليل سعاده والد الزعيم، في عددها الصادر يوم السبت في (1) شباط (1936م) بتوقيع «القروي» وإليك بعض ما قاله في المقالة الافتتاحية المشار إليها:
«وأنطون ذلك الفتى النجيب الذي يعرفه الوسط السوري السانباولي إذ كان يعاون المرحوم أباه في تحرير (الجريدة) ولما يكد يجاوز نصف العقد الثاني من عمره النافع الطويل إن شاء الله.
عرفنا الفتى أنطون في هذه الحاضرة وهمّه أبعد من سنه ومراده أكبر من جسمه، وكان بعض المتعنتين من الأدباء (ولعل إلياس فرحات أولهم) يستثقلون ظله لحشره نفسه بين جماعة المنشئين والكتّاب الناضجين. وكان كاتب هذه السطور (رشيد الخوري) يناقش عنه لما كان يتوسم فيه من مخائل النجابة التي أمهلها الله بمنّه حتى صارت شمائل حلوة رائعة تدعو إلى الدهشة والإعجاب».
هذا بعض ما كتبه الخوري بوجدان نزيه وصراحة تامة في أوائل سنة (1936م). ولكن أوائل سنة (1939م) أخذت الحالة تتبدل، فلم يعد أنطون سعاده ذلك الفتى البعيد الفهم والكبير المراد ولا ذا مخائل النجابة التي أمهلها الله بمنّه حتى صارت «شمائل حلوة رائعة تدعو إلى الدهشة والإعجاب». كلا، لم يعد أنطون سعاده لرشيد الخوري سوى مضلل ليس في شي رائع يدعو إلى الدهشة والإعجاب! لماذا؟ لأن رشيد سليم الخوري وضع نفسه تحت تصرف إرادات خفية غامضة تشتغل وراء شكيب أرسلان أو كشغله!
في الحلقات الأولى من هذه السلسلة أوردنا بعض مطاعن رشيد الخوري في الحزب السوري القومي وشخصية زعيمه، ولكن فاتنا أن نذكر هناك ناحية من الدسّ الدال على اختبار طويل العهد في هذا الفن اللئيم. فمن وسائل إلقاء الشبهة والريبة، بطريقة لبقة على درجة عالية من الإتقان، قول رشيد الخوري لبعض الذين استصوبوا غاية الحزب السوري القومي وعرفوا قدر مبادئه السامية التي وضعها له الزعيم: «سواء أكانت هذه المبادىء وشروحها من إنشاء الزعيم نفسه أو مما نقله أو أخذه الزعيم من مصادر أجنبية، فلا شك أن الحزب السوري القومي أوجد نظاماً جيداً وأشياء مفيدة يحسن اكتسابها!».
إلى هذا المدى البعيد وصلت وقاحة الخوري في الدسّ على الحركة السورية القومية والعمل على هدم عصمتها ومحق الإيمان بها!
ألا يعرف رشيد الخوري نفسه حق المعرفة أن مبادىءالحزب السوري القومي وشروحها هي من إنشاء الزعيم ولا يمكن أن تكون إلا من إنشائه؟
بلى، هو يعرف ذلك حق المعرفة فهو قد احتك بأفكار أنطون سعاده الاجتماعية ــــ السياسية قبل مغادرته البرازيل عائداً إلى الوطن ليعمل على إنهاضه. ولا نظنه ينسى حديث الزعيم إليه في أحد الأمساء قرب جسر نينغباهو في سان باولو على فكرته السورية القومية، وكان ذلك قبل سنة (1930م)، ولا نخاله ينسى مقال أنطون سعاده المثبت في الجزء الأول من (المجلة) سنة (1924م) عن القضية السورية (أنظر ج1 ص 81)، ولا خطابه الذي ألقاه سنة (1926م) باسم «الرابطة الوطنية السورية» التي كان وضع لها ممبادئها ومنهاجها وغايتها حين أسسها بشكل سري. ولا يجوز أن يجهل الناظم القروي أن في سان باولو أشخاصاً ذوي أدب ومركز اجتماعي يعرفون بعض أفكار الزعيم القومية قبل عودته إلى الوطن سنة (1930م). نذكر منهم الدكتور عبده جزرة الذي كان صديقاً حميماً لوالد الزعيم، ثم تمكنت صداقته مع الزعيم نفسه فكشف له الزعيم عن عزمه على العودة إلى الوطن للعمل على إحياء سورية وإنهاضها وتحريرها، وأطلعه على بعض أفكاره فكان جواب الدكتور جزرة له بهذا المعنى: «لا أريد أن أثبط عزمك ولكني أقول إنك ستجد صعوبات كثيرة وتلاقي نكران الجميل ومحاربة من نواحٍ كثيرة وتتعذب كثيراً». والأدلة الوثيقة، التي تثبت أن مبادىءالحزب السوري القومي نشأت بتفكير الزعيم المستقل الذي لم يكن يقبل المؤثرات الخارجية، متوفر عند رشيد الخوري بعض خبرها، حتى أنه شهد للزعيم في مقالته المشار إليها آنفاً فلا يسوغ عباراته المثيرة الشكوك في سلامة مبادىء الحزب السوري القومي غير تأجيره نفسه للعمل ضد هذه المبادىء كما ظهر من أعماله الأخيرة.
قد يمر بقول الخوري البسطاء فلا يجدون فيه شيئاً من الدسّ اللئيم أو على الأقل من الحطّ من قدر تعاليم الحزب السوري القومي. وهذا نتيجة إتقان فن الدسّ القاتل في معرض المدح الكسيح. فرشيد الخوري يريد بهذا القول أن يلقي في روع السامعين أنه وإن يكن الشك في مصدر تعاليم الحزب السوري القومي واجباً، أي أنه يوجد مجال واسع للاعتقاد أن مبادىءالنهضة السورية القومية ليست من إبداع الفتى النجيب أنطون صاحب «الشمائل الحلوة الرائعة التي تدعو إلى الدهشة والإعجاب»، فلا بأس باقتباس بعض التنظيمات التي أوجدها!
تحويل الاهتمام بالحزب السوري القومي، الذي جاءت مبادئه القومية الاجتماعية تجلو ظلمات القضية السورية، عن هذه المبادىء المحيية إلى الأشكال الترتيبية، الشكلية، هو آخر سلاح لجأ إليه الذين عجزوا عن الوقوف في وجه الحركة السورية القومية. وهذا السلاح اللئيم بعينه لم يكن لرشيد الخوري فضل فيه. فقد سبقه إلى إيجاده عدد من مستغلي «دولة لبنان الكبير» و«الإمبراطورية العربية»، حتى في الدسّ والمطاعن اللئيمة لم يكن رشيد الخوري مبتكراً!
إن جميع دجالي الوطنية ومنافقي القومية يقولون للسوريين القوميين الاجتماعيين: «أعطونا نظامكم البديع فإننا نقدر أن نستخدمه في مآربنا ضد حياة الأمة، ولكن أبعدوا مبادئكم القومية الاجتماعية عنا وعن الشعب لئلا يستيقظ ويعرف إثمنا نحوه فينقلب ويتحرر من تدجيلنا ويمزقنا كل ممزق!».
أما الحزب السوري القومي فيقول لهم: إني لا أقدر أن أنزع نظامي عن مبادئي فهما كالدورة الدموية والأعصاب للجسم فلا يحيا ويتحرك إلا بهما كلبيهما، إن النظام وحده لا يحييكم، إن إكسير الحياة في مبادئي، أما نظامي فليس سوى الجهاز الذي يتم به نقل الإكسير إلى الأجسام!
ثم كان أن رشيد الخوري انتهز فرصة الاحتفال بالمولد الرسولي في سان باولو، البرازيل، سنة (1940م) فكتب مقالة خطابية طويلة في موضوع «المسيحية والإسلام» وعدّها وعدّتها له صحيفة (الرابطة)، التي نشرتها له ابتداءً من عددها الصادر في الثامن من حزيران من السنة المذكورة، «محاضرة»، تطرّق فيها إلى الحركة السورية القومية وتناولها بالقدح والذم. أما أساس موضوع حارضته التي سماها محاضرة فقد بيّنا في سياق المقالات المتقدمة مقدار جهله شؤونه وأوضحنا أنه لم يكن مفكراً مبتكراً في شي من مقالته، بل كان ناقلاً، على عادته، بتصرف، كلام أستاذي الرجعة إلى الدولة الدينية المحمدية السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. وأما ما تناول به الحزب السوري القومي وعقيدته الصحيحة من الذم والهجو فقد ظهر على ضوء ما تقدم من هذه السلسلة مبلغ ضلاله وخبطه فيه على غير هدى وبشي كثير من الجهل والحماقة.
ومن غريب أمر هذا الخوري، الذي صار «حاجاً» رسولياً ثم عاد خورياً مسيحياً، أنه لم يكد يقرأ أول رد جريء قوي على غوايته نشر في (سورية الجديدة) بقلم الرفيق وليم بحليس الذي دافع عن الوجهة القومية، وردود القس خليل الراسي الذي تقدم للدفاع عن المسيحية التي قام الخوري يجردها بنفاقه من فوائدها وفضائلها المشهورة، ظناً منه أنه يحسن الزلفى، على هذه الطريقة، إلى الذين انحاز إلى هوسهم الديني ومآربهم السفلية، حتى أوقف نشر الأقسام الأخيرة من حارضته وعمد إليها فبدّل فيها ليجعل كلامه متضمناً رداً احتيالياً على ما أوضح من خبطه وجهله وسوء قصده، فكان من الجبن والخوف في حال حملت على تزييف كلامه. وهذا عمل لا يأتيه أديب شريف يخدم فكرة يعتقد بها مهما أحدث كلامه من ضجة. ولو أن فئة الأدباء والمستأدبين التي أطلقت على نفسها اسم «العصبة الأندلسية» أوجدت مؤسسة صحيحة ذات غاية ونظام، لكانت رأت من واجبها، حرصاً على سمعتها والمنزلة التي توخت احتلالها، أن تدعو الخوري، وهو عضو فيها، إلى جلسة يُستجوب فيها عن كيفية تزييف القسم الأخير من حارضته التي سميت، جهلاً، محاضرة وتتخذ بحقه قرار طرد عند ثبوت التزييف. ولكن «العصبة الأندلسية» كانت خليطاً لا شكل موحداً لها. ونحن نعرف من أعضائها أديباً شاعراً واحداً يصح أن يحمل هذا اللقب، وقد يكون هنالك واحد أو اثنان آخران يمكن حسبانهما في مصاف الأدباء، أما الباقون فهو صيادو ألفاظ ومترجمو أو ماسخو مقالات وأفكار لغيرهم ومحبو ظهور تحت اسم الأدب.
لقد مدح الخوري شكيب أرسلان في حارضته فقال عنه إنه «فتى فتيان العرب»، ونحن نعلم أن «أرسلان» ليس اسماً عربياً، بل سلجوقياً، ونعلم أن شكيب أرسلان العربي الذي يريد أن يطهر العالم العربي من الأجناس غير العربية، لم يتزوج امرأة عربية، بل سورية شركسية. ونعلم فوق ذلك أن غالباً ابن شكيب أرسلان، لا يرى في أبيه ما يدعوه إلى محبته واحترامه فهو على خلاف معه ويقول إنه قد تعب من تلوّن أبيه وريائه.
وقد مدح شكيب أرسلان رشيد الخوري، رياء، فقال عنه في المقالة التي نشرتها له (العالم العربي) في عددها الصادر في (13) تشرين الثاني (1940م)، إنه الشاعر الشهير الذي خدم الإسلام (المحمدي) ببراهينه الساطعة وحججه الدامغة(!!) أكثر مما خدمه مئات ألوف من المسلمين (المحمديين) أنفسهم. وعاد رشيد الخوري إلى مدح أرسلان في بونينُس آيرس فقال عنه إن ذاك المقيم في أوروبة «يكفكف يد ويمد أخرى». والمطلعون على حركات شكيب أرسلان لم يعرفوه إلا مكفكفاً يداً وماداً أخرى كل حياته!
قلنا إن الرجعة تحارب حربها الأخيرة. وها جبهة كاملة تنهار في المهجر: إلياس فرحات، رشيد الخوري، إيليا أبي ماضي، عبد المسيح حداد. وهذه الجبهة ليست سوى حلقة من حلقات سلسلة الرجعة والبلبلة والتدجيل، ومنها حلقة شكيب أرسلان وأضرابه.
إن النهضة السورية القومية تأسف لسقوط هؤلاء المبوقين. فهي قد حاولت إنقاذهم من مصيرهم السيىء. ولكن لا بد للنهضة القومية من ضرب كل من يحاول الوقوف في وجهها!
إن إنجاد إيليا أبي ماضي للخوري وإنجاد عبد المسيح حداد لإيليا أبي ماضي لم يحولا دون إطباق جنون الخوري على خلوده، ولا دون إطباق سفسطة أبي ماضي على صيته، ولا دون إلحاق عبد المسيح حداد بصاحبيه ومقاسميه سوء طالعه.
لا نزعم أننا قد قضينا على الجنون بالخلود ولكننا نزعم أننا قد أزلنا خطر المجانين بالخلود عن قضية أمتنا ووطننا. فهم يقدرون أن يصخبوا ويضجوا وراء حواجز الحديد التي أقمناها لهم، وأن يصلصلوا بقيودهم ما شاؤوا، إنهم أحرار في كل ذلك، ولكنهم لم يبقوا قادرين على إيذاء القضية القومية الاجتماعية المقدسة.
وإذا كانت مصيبتهم بإدراكهم، بعد كل هذا العمر، أن المجانين لا يخلدون في الدنيا فيمكنهم أن يتعزوا بأن الجنون نفسه خالد فهو باقٍ ما بقي الناس، فلا بد من ظهور مجانين بالخلود وبغير الخلود بين الفينة والفينة، ولكن الإنسانية تتقدم في علومها النفسية جيلاً بعد جيل وتزيد وسائل الوقاية من خطر المجانين.
ولعل أصعب مسألة في أمر هؤلاء هي: كيف يمكن وقاية المجانين بعضهم من بعض؟ ولكن هذه المسألة إذا لم تتمكن الإنسانية من حلها حلاً تاماً فالباقي منه يبقى حله للمجانين أنفسهم! فلهؤلاء ساعات يثور فيها جنونهم والويل حينئذٍ لبعضهم من بعض!
انتهى
هاني بعل

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى