تواضعوا، وداعاً وتقبّلوا التعازي

بدر الحاج

المكان: مطار بيروت في منطقة بئر حسن
الحدث: طائرة قادمة من القاهرة تحطّ في المطار وعلى متنها أنطون سعاده ومن بين ركابها فوزي القاوقجي وفريد الأطرش.


في ذلك اليوم، توافدت حشود ضخمة لم يسبق لبيروت أن شهدت مثيلًا للترحيب بسعاده، القائد العائد من المنفى القسريّ الذي استمر حوالى تسع سنوات في أميركا الجنوبيّة.
بداية، منعت الحكومة اللبنانيّة الحشود القادمة من لبنان والشام وفلسطين والأردن من دخول بيروت، فجرى تحاشي الصِّدام وتجمّعت الجماهير في منطقة الغبيري حيث ألقى سعاده خطابًا عُرف في ما بعد بـ «خطاب العودة». وبعد ساعات قليلة من إلقاء الخطاب، قرّرت الحكومة اللبنانيّة تأديب الخطيب فأصدرت بحقّه مذكّرة توقيف، لأنّ رئيس الحكومة اعتبر أنّ في الخطاب «هنات» لم تكن بالهيّنات بالنسبة له كما صرحّ في اليوم التالي:
“الطبقة السياسيّة من مختلف الطوائف توافقت على التأديب، هذه الطبقة هي التي سبق لها أن نشأت وترعرعت في أحضان الفرنسيّين والإنكليز، بعضهم كانوا خَدَماً عند الاحتلال الفرنسيّ، والبعض الآخر نكاية أو لعدم اختيار الفرنسيّين له، قرّروا مبايعة الإنكليز، وفي مقدّمة هؤلاء رئيس الحكومة.
أمّا المُلاحَق، فهو قائد ومفكّر شجاع حارب الاحتلال بدون هوادة، واعتقل ثلاث مرّات ما بين 1935 و1937، واضطرّ إلى مغادرة البلاد سرًّا وبسرعة بعدما كشف مؤامرة لاعتقاله للمرّة الرابعة. ورغم نفيه القسريّ حيل بكافة الوسائل السّماح له بالعودة، وكانت التقارير عن نشاطه القوميّ في المغترب تصل تباعًا إلى المخابرات الفرنسيّة والأميركيّة كما ثبتت الوثائق السريّة التي أصبح بالإمكان الاطّلاع عليها في البلدَين.
لن أستفيض في شرح الملابسات والوساطات التي رافقت رفض السلطات عودته، والحيلولة دون تسلّمه جواز سفر بأوامر من رئيس الحكومة رياض الصلح. لكن في نهاية الأمر، نجحت الوساطات المتعدّدة، وأذعنت الحكومة وجرى تسليم جواز السفر له في البرازيل. وبهدف تطويق انعكاسات وصوله، جرت محاولات في القاهرة لإقناعه بأنّ الأمور تغيّرت، والبلد أصبح «مستقلًا»، وليس من المستحبّ إعادة التأكيد على الثوابت القوميّة التي أعلنها طيلة فترة وجوده في لبنان في مطلع ثلاثينات القرن الماضي.
لم تتراجع الحكومة اللبنانيّة عن مذكرة التوقيف إلّا بعدما اضطرّ أقطاب السلطة المتنازعون في ما بينهم، والمتخالفون ضدّه، إلى التفاوض معه بهدف الحصول على تأييد القوميّين الاجتماعيّين لهم في الانتخابات التي كان من المُزمع إجراؤها.
بعد عودته إلى ساحة الجهاد، كما أعلن، وانتهاء الانتخابات، بدأت مرحلة جديدة من المفاوضات والتحرّشات. كان الوضع خطيراً، أعلن قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 وقامت الدولة اليهوديّة في أيار 1948، وابتدأت الجلجلة الفلسطينيّة وتدفّق آلاف الفلسطينيّين إلى كيانات جوار فلسطين. على الفور، منعت الحكومة مظاهرة للقوميّين ضدّ قرار تقسيم فلسطين في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947. وأُلغِي امتياز جريدة «صدى النهضة» الناطقة بِاسم الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. وأصدرت الحكومة بلاغًا منعت فيه «الأجانب» من القيام بأيّ نشاط سياسيّ. و«الأجانب» هم بالطبع الفلسطينيّون. وفي تلك الفترة كان الفلسطينيّ فايز صايغ «عميد الإذاعة في الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ». أخيرًا ضاقوا ذرعًا به وبطروحاته وبنشاطات حزبه، فجرى التخطيط لتفجير الوضع برمّته في 11 حزيران (يونيو) 1949 عندما هاجمت كتائب بيار الجميّل مكاتب جريدة الحزب «الجيل الجديد» في الجميزة وأحرقتها. (ما أشبه هجوم كتائب الجميّل هذا – بهجومهم لاحقاً سنة 1975 وقتلهم ركّاب باص عين الرمّانة).
بسرعة البرق، صدرت الأوامر باعتقال سعاده وبدأت حملة قمع واعتقالات مكثّفة من قبل السّلطة ضدّ أعضاء وقيادات الحزب. أخيرًا، في صبيحة يوم 8 تموز (يوليو) 1949 قتلت السلطة اللبنانيّة سعاده بعد محاكمة سرّيّة استمرّت بضع ساعات، إثر تسليم ديكتاتور دمشق حسني الزعيم السلطات اللبنانيّة سعاده ليل 7 تموز وبضغوط عربيّة. هذا مختصر سريع للأحاديث، لكن أودّ أن أعود إلى ما جاء في خطاب العودة وقرأته مجدّدًا على ضوء الأوضاع التي عاشها لبنان منذ تلك الفترة حتى يومنا هذا. لعلّه بالإمكان أخذ العبرة والتخلّي عن التمسّك بالأوهام وكشف الوضع على حقيقته المرّة. ماذا قال الرجل في ذلك الخطاب الذي استفزّ أركان السلطة؟

في البدء ذكّر سعاده جموع المحتشدين وكان معظمهم من ضيوف سجون الاحتلال الفرنسي قائلاً: «في حالة الاستقلال الحاضرة خرجت الأمّة من «القواويش» التي كانت فيها، خرجت الأمّة من الحبوس داخل البناية التي أعدّ لها الاستعمار ولكنّها حتى الآن لا تزال ضمن السور الكبير الذي يحيط ببنايات السجن. نحن الآن خارج القواويش ولكنّنا لا نزال ضمن السور، الأبواب مفتوحة، التي من الداخل، أمّا التي إلى الخارج فلا يزال عليها السجّانون، وهم دائمًا منّا في الغالب». وأيضًا: «لعلّكم ستسمعون من سيقول لكم إنّ في إنقاذ فلسطين حيفًا على لبنان واللبنانيّين، وأمر لا دخل للّبنانيّين فيه، إنّ إنقاذ فلسطين هو أمر لبنانيّ في الصميم، كما هو أمر فلسطينيّ في الصميم. إنّ الخطر اليهوديّ على فلسطين هو على سورية كلّها، هو خطر على جميع هذه الكيانات».
منذ ذلك اليوم وحتى الآن، السجّانون وأحفادهم باعوا واشتروا، أثروا ونهبوا، تآمروا وخانوا، ذبحوا ودمّروا، وهم باستمرار يعرضون خدماتهم للبيع لأيّ قنصل أو سفير يقبل استعمالهم. وثائق موقع ويكيليكس هي القليل القليل من إنجازاتهم. ولا يزال اللبنانيّون حتى يومنا هذا يعانون من جور زعماء الطوائف وأجهزتهم القمعيّة. نضالهم للوصول إلى السّلطة لا تأتي ثماره إلّا عبر أسلوبَين: الأوّل محلّيّ، وهو عبر تغذية التوتّر المذهبيّ والصراع الطائفيّ. والثاني أجنبيّ في حال رضي سفير دولة ما وأجهزة مخابراتها تجنيده. في السياسة اللبنانيّة التقليديّة الأولويّة للمال، كلّ شيء قابل للبيع والشراء، المصالح الشخصيّة هي الأساس، النفاق السياسيّ والزئبقيّة في المواقف هي مبدأ. الناس عبارة عن حطب في معارك الزعامات، تارة ضمن الطائفة الواحدة وتارة ضدّ طائفة أخرى، شراستهم في ما بينهم لا يمكن وصفها، تُرتكب المجازر وبعد فترة يتوافق المتقاتلون في «سبيل الوطن» بالتأكيد. وإذا حاولت نبش تاريخهم الأسود يتذمّرون ويقولون: «لماذا نبش القبور، الوحدة الوطنيّة هي الأساس وعفا الله عمّا مضى» هذه هي المعزوفة التي لم تتبدّل منذ المجازر الأولى في أواسط أربعينات القرن التاسع عشر إلى مجازر 1860، إلى المجازر المتنقّلة في القرن العشرين. لكن من المؤكّد أنّ طلقة واحدة ضدّ العدو الصهيونيّ فيها فتوى التحريم.
ما قاله سعاده في خطبه ومقالاته ورسائله هو النقيض لهؤلاء العرّابين .(God Fathers)

قال بفصل الدّين عن الدّولة، وإلغاء الحواجز بين الطوائف، ونادى بالوحدة السوريّة. في عمره القصير جداً (1904-1949) أمضى في أرض الوطن بضع سنوات فقط، لكن ما قاله وأسّسه وحّد ضدّه المحتلّين الفرنسيّين وجميع الطبقة السياسيّة التي حكمت لبنان. والآن بعد مرور كلّ هذه السنوات على استشهاده، نستطيع بسهولة تذوّق الحصاد المرّ الذي جلبه عداؤهم له وجريمتهم بحقّه وحقّ رفاقه على هذا البلد. من على أيديهم أنهار من الدّم هم الأسياد وأصحاب القرار. هنا يحضرني قول لشكسبير استهلّ به سعاده مطلع قصة كتبها بعنوان «فاجعة الحب» جاء فيه «البعض يرتفع بالخطيئة والبعض يسقط بالفضيلة».
اليوم وفي بحر التمزّق التي تشهده بلادنا، وبالتحديد في الكيان اللبناني من هجرة، وبطالة، واصطفاف طائفيّ، وحقد مذهبيّ دفين، نفايات، تلوّث، انعدام الكهرباء وشحّ الماء، نهب منظّم من قبل بعض أهل السلطة والمصارف وكبار الرأسماليّين وغيره وغيره، ناهيك بالانكفاء عن حفظ أيّ كرامة لهذه الأرض ومن يسكنها والتي تزورها يومياً طائرات الصهاينة… نعم في خضم هذا الوضع الذي هو بمثابة حشجرة الميت. كلّ الحلول للأزمات تولد ميتة لا قوانين انتخابات عصريّة، سواء كانت نسبية أو غير نسبية أو كونفدرالية تنفع، ولا محاولات تجنيس المغتربين (بالمناسبة جرت محاولة مماثلة سنة 1937 بهدف زيارة عدد المسيحييّن وفشلت). كلّ ذلك لا يمكن أن يكون علاجًا لمريض في مرحلة النَزَع الأخير. جميع تلك المشاريع التخديريّة لا أساس واقعيًّا لها، فالأساس الذي بنى عليه الفرنسيّون هذا الكيان بوصفه «وطناً قوميًّا للمسيحيّين»؛ هو أساس مبنيّ أصلًا على الرمل والانهيارات لا محالة.
منذ اليوم بدأ السياسيّون بالحديث عن تحضيرات تجري للاحتفال بقيامة «لبنان الكبير» بمناسبة مرور مئة عام على إعلان جنرال محتلّ هو غورو- هذا الاستقلال السخريّ في أول أيلول 1920. هناك حقيقة تاريخيّة موثقة لا تقبل جدلًا: إنّ فكرة لبنان الكبير هي في الأصل فكرة فرنسيّة تعود على الأقلّ إلى سنة 1860. كانت تلك الفكرة حلقة ضمن مخطّط استراتيجيّ فرنسيّ لتقسيم سورية إلى دويلات طائفيّة. ردّد تلك الفكرة كتّاب وأساقفة لبنانيّون كانوا مموّلين من الفرنسيّين (هذا الأمر موثّق بوثائق فرنسية) أمثال شكري غانم، أو قبله فردينان تيان أو بولس نجيم وغيرهم (3) الضبّاط الفرنسيّون الّذين جاءوا إلى سورية مع القوات الفرنسيّة سنة 1860 بهدف «إنقاذ المسيحيّين»؟؟ هم الذين وضعوا خريطة لبنان الكبير سنة 1862 كما تبيّن الخريطة المُرفقة دون أيّ مواربة. (انظر الخريطة المرفقة). ما فعله غورو هو بالضبط ما خطّط له الضبّاط الفرنسيّون الذين أنشأوا دويلات طائفيّة في سورية، ولكي يتمّ الإخراج نوعًا ما بشكل مقنع، جمع غورو في صبيحة الأول من أيلول سنة 1920 البطريرك الحويك والمفتي نجا، واحد على اليمين وآخر على اليسار، وانطلق المشروع بعد اعتقال مجلس إدارة لبنان ونفيهم جميعًا إلى كورسيكا، ومن بينهم سعدالله الحويك شقيق البطريرك الذي كان من المعارضين مع زملائه للمشروع برمّته ومن المطالبين بعدم الاستقلال عن سورية.
ختامًا، ما أشبه الوضع الآن بفيلم سينمائيّ طويل، انتهت مشاهده وملّ الناس واحترق المسرح، ولا يزال الممثّلون وورثتهم أحياء كما يقول نزار قباني، وعلى الشاشة أمامنا سرد لتاريخ فرضه علينا ضبّاط فرنسا سنة 1860 وهو مستمرّ حتى الآن، لكنّنا بانتظار كلمة النهاية في ختام هذا الفيلم- الطويل. وبعد ذلك لنا طلب واحد فقط لا غير من السياديّين الطائفيّين، يا سادة تواضعوا قليلًا، وداعًا، ابدأوا بتقبّل التعازي.

* المصادر:
1- أنطون سعاده، الأعمال الكاملة 1944-1947، الجزء السابع، مؤسّسة سعاده للثقافة، بيروت 2001، الصفحات 204-205.
2- Spears, Edward: Fulfillment of a mission to Syria and the Lebanon, 1941-1944, London, Leo Cooper, 1977
3- الأسماء الواردة هي جزء يسير من سلسلة مقالات وكتب نُشرت في فرنسا في الأساس من قِبل العديد من الكتّاب اللبنانيّين الذين كانوا أبواقًا للفرنسيّين. أكتفي بالإشارة إلى المصدرَين التاليين فقط، وهما:
• Tyan, Ferdinand: The Entente Cordiale in Lebanon, London; T. Fisher Unwin, 1917
• Tyan, Ferdinand: Sous les Cèdres du Liban: La nationalité maronite, La Chappelle- Montigeon, 1905

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى